تخوض المهرجانات الصيفية في لبنان مواجهة مستمرة مع أقدارها، أو بالأحرى أقدار «الوطن الصغير» الذي كلما هَمَّ بتنفس الصعداء دهمته نوبة جديدة من الأزمات المتناسلة نتيجة مأزق عضوي ناجم عن طبيعة تكوين النظام الطائفي العاجز عن ابتكار حلول لأزماته المستعصية. وإذا مرَّ صيف بلا حروب ومعارك وتفجيرات تولد مشكلات شبيهة بمشكلة الزبالة التي زكمت روائحها الممزوجة بروائح الفساد المستشري أنوف الحالمين بصيفٍ طبيعيٍّ أو أقله شبه طبيعي، اذ منذ زمن واللبنانيون ما عادوا يطالبون بأكثر من الحد الأدنى من الحياة العادية، ولعل أبسط مظاهرها أن يكون للصيف مهرجاناته التي تساهم ولو قليلاً في إشاعة بعض الفرح والسلوى وتبدد بعض التوجس والقلق. تبدو تلك المهرجانات في سباق مع الزمن، تختلس لحظات هدوء لكي تقدّم لروادها بضعة ليالٍ صيفية تطغى فيها أصوات الموسيقى والغناء على أصوات الرصاص ودويّ المدافع في اقليم أشبه بالمرجل الملتهب، لكن هل هي فقط الحروب المجاورة والأزمات السياسية والاقتصادية والمخاطر الأمنية التي تحول دون تحوّل مهرجانات لبنان علامة فارقة بين المهرجانات العربية، خصوصاً أن للبنان رغم أزماته سماتٍ تشكّل قيمة مضافة وعاملاً مساعداً في إنجاح أي مهرجان، منها ما هو موضوعي مثل الموقع الجغرافي والطقس الجميل خصوصاً في الجبال، ومنها الذاتي الناتج عن خبرة اللبنانيين في تنشيط الفعاليات الفنية وتنظيمها؟ الإجابة هنا ليست جازمة بِنعم أو لا، اذ ثمة أسباب متراكمة تعيق تطور المهرجانات اللبنانية، منها ما تمت الإشارة اليه من أسباب سياسية واقتصادية وأمنية، ومنها مثلاً غياب البنى التحتية الحديثة والمريحة التي تؤمن تنقلاً سهلاً بين المناطق اللبنانية، فرغم صغر مساحة لبنان الجغرافية بات الانتقال فيه من منطقة الى أخرى محنة حقيقية بفعل زحمة السير وعشوائية قيادة السيارات ورثاثة حال الطرق من حفرٍ وغياب إنارة الى آخر ما يعلمه اللبنانيون. كلُّ ما تقدّم يجعل إقامة مهرجانات فنية تستقطب الفنانين المشاركين والجمهور تحدياً حقيقياً يستحق الإشادة والتنويه، ولئن كانت الظروف العامة تفرض أحياناً إقامة المهرجان بمن حضر أو بمن استطعنا اليهم سبيلاً من «النجوم» المحليين والعالميين، فإن ثمة ملاحظة يجدر تسجيلها علّ القيمين على المهرجانات ينتبهون اليها ويعملون على الأخذ بها، وهي ملاحظة من شقين، الأول تكرار الفنانين الذين يحييون ليالي المهرجانات كل عام، سواء بين مهرجان وآخر أو في المهرجان نفسه عاماً تلو عام، ولئن كنّا نجد بعض المسوغات لمثل هذا التكرار منها ما ذكرناه آنفاً، فإن الأمر الثاني لا نجد له أي مبرر، وهو غياب الوجوه الجديدة أو الشابة كلياً عن برمجة ليالي المهرجانات، علماً أن في صفوف الشباب اليوم على امتداد الوطن العربي تجارب تستحق وأكثر، وثمة أيضاً في ما يُعرَف بفنون «الأندر غراوند» و»الباك ستريت» أو الشوارع الخلفية ما يجذب جمهور الشباب لإرتياد المهرجانات لو استضافت بعض التجارب المميزة والناجحة عِوَض الإصرار على تكرار الأسماء نفسها، أو إستدعاء أسماء من الأرشيف لا توهج حقيقياً لها سوى في ذاكرة بعض أعضاء لجان تلك المهرجانات. نسوق ملاحظاتنا بِحُبّ ومودة، لرغبتنا العارمة في أن نحظى بمهرجانات مميزة تساهم ولو قليلاً في التخفيف عن الناس، وتبعث رسائل أمل بأن الحياة أقوى من الموت، وأن صوت الإبداع الإنساني المعرفي فناً وأدباً يقوى على «إبداعات» القتل والذبح والتخريب، وأن نزعات الخير الكامنة في النفس البشرية قادرة على مواجهة نزعات الشرّ والانتصار عليها، لأن الحياة ببساطة تستمر، ففي موروثنا: الحيُّ أبقى من الميت. دمتم أحياء. من جريدة الحياة