مرّة أخرى تشدّنا الظروف غير المسبوقة في العراق والشام، وتفرض نفسها موضوعاً للبحث والتحليل. المنطقة تتعرّض لكارثة لا تلحق بها أضراراً موضعية وحسب، بل تهزّ كيانها وتهدّد وحدتها وتضعها في بداية الطريق لتاريخ جديد. إنها تعيش أحداثاً صاخبة ستقرّر مصيرها ومستقبلها لعقود، وربما أكثر من العقود. ولكنها، في الوقت نفسه، تعاني من فراغ سياسي مخيف، فليس فيها قوّة واحدة مستقلة وذات وزن تعبِّر عن هويتها الوطنية الجامعة، ويحسب حسابها في رسم الواقع وتحديد المصير. لقد تلاشت ذاتية المشرق العربي في ظرف تاريخي غير ملائم على الإطلاق. ففيما تفقد المنطقة وجودها ودورها وهويتها، يسود صراع الأقوياء بين القوى الإقليمية الكبرى المحيطة بها. وعندما يتبارز الأقوياء لا مكان في الساحة للضعفاء، ومن باب أولى للغائبين. قد لا يلاحظ البعض أن القوى المحيطة بالعراق والشام تعيش مرحلة تاريخية لا سابق لها من حيث الطموحات العالية والأهداف الكبيرة. فلم يسبق لإيران أو لتركيا الحديثة أن كان لهما هذا المستوى العالي من الرغبة بالسيطرة والتوسّع والنفوذ. ولم يسبق للخليج أن شعر، كما يفعل اليوم، بحجم المخاطر التي تتهدّده، فيجنّد نفوذه وإمكاناته المالية الأسطورية، وعلاقاته في المنطقة والعالم، ويزجّها كلها في معركة، هي بالنسبة إليه معركة وجود ومصير. إيران الجمهورية الإسلامية تسعى بكفاءة لتحقيق أحلام راودت الشاهات قروناً، ولكنهم لم يتمكنوا حتى من السعي إليها. كان هاجس إيران التاريخي هو الحفاظ فقط على السيادة والاستقلال في وجه الدولة العثمانية وروسيا القيصرية، قبل أن يجذب النفط إلى تخومها الغربية الإنكليز والأميركان. لكن انهيار الدولة العثمانية ثم الاتحاد السوفياتي حرّر إيران من المخاطر التاريخية وأنعش حلمها الدفين بالتحوّل إلى قوّة إقليمية، تمتد من أفغانستان إلى اللاذقية وبيروت. إنه الهدف الذي تسعى إليه اليوم بما تملك من وسائل: المشروع النووي والحنكة الديبلوماسية والتحالفات المتينة في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. تقدّمت الجمهورية الإسلامية خطوات نحو هذا الهدف عندما نجحت في مناورة سياسية بالغة الذكاء، فتركت حلفاءها يشجعون الأميركيين على التخلص من صدّام، ثم غذَّت ثورتهم على الأميركيين أنفسهم حتى أخرجوهم من المنطقة. هكذا تخلصت إيران من الأميركيين ومن صدّام معاً. ولكن في المنطقة من يملك، بدوره، أحلاماً كبيرة وينافس إيران على السيطرة، وإن كان يسعى إلى أهدافه بذكاء أقلّ وحنكة لا ترقى إلى دهاء الفرس: إنه حزب العدالة والتنمية التركي بزعامة رجب طيّب أردوغان. كثيراً ما جاهر أردوغان بطموحاته السلطانية ومخططاته التوسّعية. ففي المؤتمر الرابع لحزب العدالة والتنمية، أواخر سنة 2012، قال إنه يعمل على بناء أمة عظمى وقوّة عظمى، داعياً إلى دور لبلاده يتخطى حدودها ويجعلها «تهيمن على الشرق». أعرب أردوغان يومها عن أمله بأن يبقى هو القائد سنة 2023، عندما تحتفل تركيا بمئوية تأسيس الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك. ولكنه ذهب إلى ما هو أبعد، فدعا شباب تركيا إلى التفكير ليس بسنة 2023 فقط، بل بسنة 2071. وقد أشعل هذا الموعد الذي ضربه ذاكرة التاريخ البعيد. فسنة 2071 تصادف الذكرى الألفية لمعركة ملاذ كرد التي انتصر فيها السلطان السلجوقي ألب أرسلان مع خمسة عشر ألف جندي على مئتي ألف جندي بقيادة الامبراطور البيزنطي رومانوس، الذي وقع أسيراً بيد ألب أرسلان. ثم تابع السلاجقة فتوحاتهم وتوغلوا في قلب آسيا الصغرى، واستمرت الأحداث تتلاحق حتى سقوط القسطنطينية وسيطرة العثمانيين على الشرق وأجزاء من الغرب. مأثرة الطرف الثالث في هذه الحرب، أي الخليج، أنه لا يملك مشروعاً توسعياً للسيطرة، بل يهدف للدفاع عن نفسه ضد الطرفين الأولين، إيران التي تعتمد على الأقليات العربية، وتركيا التي تجند الإخوان المسلمين وأبشع الحركات الإسلامية في معركة الطموح الكبير. مع التراجع النسبي للصراع الدولي على الشرق الأوسط يتقدّم الصراع الشرس للقوى الإقليمية، وهو الذي سيحدّد لمنطقتنا مصيرها ونظامها ويرسم حدودها وخرائطها. سبق للصراع الدولي، وليس الإقليمي، أن لعب هذا الدور قبل مئة عام، ولكن الصوت العربي كان وقتها حاضراً، ولو كان صوتاً غير مرجّح. أما اليوم فمستقبل المشرق العربي يبنى بدون المشرقيين العرب. *نقلا عن جريدة "السفير" اللبنانية