جديد لافت حدث هذا الأسبوع في العلاقات الأميركية والروسية مع دول الخليج ومصر وتركيا وفي لغة الخطاب السياسي لكل من إيران ودول مجلس التعاون الخليجي. استئناف الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة ومصر مطلع هذا الأسبوع في القاهرة حدث مهم للحوار نفسه الذي انقطع عام 2009، ولمستقبل العلاقة الاستراتيجية الأميركية – المصرية التي توترت بسبب «الإخوان المسلمين»، وكذلك للأدوار المصرية الإقليمية في ليبيا واليمن وسورية. إعلان دول مجلس التعاون على لسان وزير خارجية قطر خالد العطية الترحيب بالاتفاق مع إيران تطوّر لافت يأتي تجاوباً مع حاجة إدارة أوباما إلى هذا الموقف عشية تناول الكونغرس للاتفاق النووي. يأتي أيضاً بالتزامن مع الاتفاق على تواصل الحوار الاستراتيجي بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الذي بدأ في كامب ديفيد قبل شهرين وستكون محطته الآتية نيويورك الشهر المقبل. الشراكة الأميركية – الروسية حملت عبر وزيري الخارجية جون كيري وسيرغي لافروف، إلى دول مجلس التعاون مقاربة جديدة في العمل الديبلوماسي والسياسي مع المنطقة العربية أطلقها الاتفاق النووي مع طهران. تفاصيل المواقف الأميركية والروسية من الملفات الإقليمية لم ترقَ إلى تحوّل جذري إن كان نحو سورية أو الدور الإيراني فيها، كما أن مجرد عقد لقاء ثلاثي ضم الوزيرين مع وزير الخارجية السعودي عادل الجبير عكس عزم واشنطن وموسكو على طمأنة السعودية إلى أن الاندفاع العارم نحو طهران لا يعني الانفصال مع الرياض، ولا تقليص الوزن العربي الإقليمي تحت رعاية وقيادة إيرانية إقليمية قدمتها الولايات المتحدة وروسيا معاً إلى إيران. وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف دخل حلبة الطمأنة عبر ديبلوماسية الابتسامة العريضة بمقالة حملت عنوان «الجار ثم الدار» في صحيفة «السفير» دعا فيها إلى «البحث عن آليات تساعد جميع بلدان المنطقة على اجتثاث جذور التوتر وعوامله وغياب الثقة فيها». ورد وزير الخارجية القطري بالمطالبة بإجراء «حوار جدي وبنّاء مع جيراننا الإيرانيين» يشمل مسألة «التدخّل» في الشؤون الداخلية لدول الخليج ومواصلة دعم طهران للرئيس بشار الأسد. فهناك حركة ديبلوماسية وسياسية تتزامن مع حملة التسويق للاتفاق النووي مع إيران. هناك أيضاً حركة اقتصادية وأمنية تفسّر إقبال أميركا وروسيا وأوروبا على إيران ودول الخليج، جزء منها لتسويق السلاح، والجزء الآخر للتموضع في عملية إعادة البناء في الدول التي دمّرتها حروق هذا العقد الغامضة والغريبة. كلام الوزير ظريف وجده الخليجيون «على اسمه» كما قال أحدهم «إنما بعيد عن مركز اتخاذ القرار في طهران وبعيد جداً عن مفهوم الثورة الإيرانية ويعكس فقط شخصيته هو كليبرالي غربي لطيف وظريف». وبحسب القراءة الخليجية لمقال وزير الخارجية الإيراني أن كلامه لا يتوافق مع أعمال إيران وتوقيته غير موفق، لأنه أتى فوراً في أعقاب «سخط خليجي نتيجة التدخل الإيراني في البحرين. ولا مناخ مناسباً الآن لهضم أقوال ظريف مع أفعال إيران في البحرين». وبحسب هذا المصدر، لقد صارحت الكويت وقطر جواد ظريف عندما زارهما فور توقيع الاتفاق النووي وقالت إنها تنتظر الإثبات من طهران على أنها حقاً تريد حسن الجوار وتبرهن فعلاً أنها لم تعد في وارد تصدير الثورة الإيرانية. مفيد لوزير الخارجية الإيراني لو تمكّن من إثبات توجه الاعتدال في إيران بقرار حاسم من مرشد الجمهورية علي خامنئي. إنما الأرجح أن هذا قرار فوق صلاحية الوزير وأن المرشد لم يقرر الاستغناء عن «الحرس الثوري» وطموحاته الإقليمية. فتوزيع الأدوار يتم الآن ريثما تُتخذ القرارات الاستراتيجية لمستقبل الجمهورية الإسلامية. وهذه الحقبة تستلزم إعطاء قوى الاعتدال المتمثلة بالرئيس حسن روحاني ووزير خارجيته فسحة إرسال الرسائل المطمئنة لأن عكس ذلك سيؤثر سلباً في الاتفاق النووي لا سيما وهو يخضع الآن للمراقبة الدولية قبل دخوله حيز التنفيذ بما يؤدي إلى رفع العقوبات. فالتصعيد اللفظي على لسان وزيري الخارجية الأميركي كيري والبريطاني فيليب هاموند ازداد هذا الأسبوع نحو طهران بانتقادها على سياسات دعم الإرهاب واعتبارها «دولة مارقة إذا حاولت أن تفرض نفوذها (الإقليمي) من خلال دعم الإرهاب». إنما هذا تماماً تصعيد لفظي فقط وليس ملحقاً من ملاحق الاتفاق النووي الذي يستولي على الأولويات الأميركية والبريطانية. ربما كانت الديبلوماسية الأميركية والبريطانية والألمانية والفرنسية مقتنعة حقاً بأن انضمام إيران إلى الأسرة الدولية سيؤدي بالضرورة إلى اضطرار طهران للتوجه الصادق نحو الاعتدال وكف أيدي القوى المحافظة التي تريد تصدير نموذج الثورة الإيرانية وفرض الدين على الدولة، إنما هذه الدول قررت مسبقاً عدم استخدام أية أدوات متوافرة لديها للتأثير في السياسات والأدوار الإقليمية لطهران وذلك باسم الحرص على إبرام الاتفاق النووي التاريخي بالنسبة إليها. وبالتالي، إن سياساتها نحو الطموحات الإقليمية لطهران مبنية على التمني وعلى زخم وإفرازات الاتفاق النووي ولم تأتِ نتيجة تفاهمات سرية مع طهران ارتبطت بالاتفاق. ضمن الزخم هناك مسألة الاعتراف بإيران كلاعب إقليمي وشرعنة أدوارها الإقليمية بالذات في الدول العربية التي دخلت فيها طرفاً مباشراً أو غير مباشر لصياغة النفوذ فيها وعلى رأسها العراق وسورية واليمن ولبنان. وضمن إفرازات الاتفاق النووي إقدام تركيا على إعادة صوغ سياساتها بما يضمن لها موقعاً مميزاً لا يسحقه الدور الإيراني كما رسمته وأقرته الدول الكبرى. جواد ظريف حاول معالجة المسألتين – الزخم والإفرازات – فتحدث في مقالته عن أن إيران بالرغم من أنها تعيش في «استقرار وأمن» إنما «لا يمكنها الوقوف موقف اللامبالاة أمام الدمار الهائل في أطرافها، لا سيما أن التجربة تقول لنا إن الفوضى والاضطرابات لا تعرف حدوداً، وانه من غير الممكن ضمان أمن أي بلد في بيئة مضطربة في هذا العالم السائر نحو العولمة». هذا موقف مهم يجدر بالوزير الإيراني حمله في زيارات إضافية إلى عواصم عربية بما فيها أبو ظبي والرياض ليثبت عزم طهران على لجم أدوارها التي تساهم في الفوضى والاضطرابات عبر الحدود لأنها تؤمن أن هذا لن يكون في مصلحتها بعد الآن. فاستمرار الدور الإيراني المعهود في سورية سيأتي على حساب إيران الجديدة لأنه سيزيد من تورطها في مستنقع ساهمت جدياً في تحويله ساحة دمار هائل وكارثة إنسانية وساحة استقطاب للإرهاب الذي يبرر الشراكة الإيرانية – الغربية لسحقه. «آليات» اجتثاث جذور التوتر وعوامله وغياب الثقة بين بلدان المنطقة متوافرة لدى طهران كما لدى الرياض وأنقرة والدوحة. والعنوان الرئيس والواضح لاختبار جديتها هو سورية حيث لا أحد من هؤلاء اللاعبين بريء مما حدث في سورية، شأنهم شأن موسكو وواشنطن ولندن ودمشق. خريطة الطريق وآلياتها باتت بديهية وكل تلكؤ في نقل سورية إلى عتبة جديدة بعيدة عن الهلاك يبقى وصمة عار على جبين من يتلكأ. سحق «داعش» في سورية لن يتم إذا بقيت طهران وموسكو على تمسكهما بالرئيس بشار الأسد. ولهذا السبب، يقال الآن إن هناك مرونة روسية وإيرانية أقل صلابة في التمسك بشخص الأسد في التركيبة الجديدة السياسية لسورية. هذه التركيبة لا تتبنى العملية السياسية الانتقالية عبر هيئة حكم بصلاحيات واسعة كما حدّدها بيان جنيف – 1 وجنيف – 2 وإنما تنطلق من بقاء النظام في الحكم في سورية مع تدريجية زوال الأسد عن النظام. ويبدو أن الأحاديث المتعددة الأطراف التي جرت هذا الأسبوع تطرقت إلى سيناريوات التفاهمات الإقليمية على أسس جديدة لكنها لم تنته إلى آليات تنفيذية بعد. من أهم ما قاله محمد جواد ظريف هو «علينا جميعاً أن نقبل حقيقة انقضاء عهد الألاعيب التي لا طائل تحتها، وأننا جميعاً إما رابحون معاً أو خاسرون معاً، فالأمن المستدام لا يتحقق بضرب أمن الآخرين». اختار ظريف اليمن ليكون «نموذجاً جيداً» للبدء في محادثات جدية. أتى هذا الاختيار بتزامن مع حركة عسكرية ميدانية لمصلحة قوات «التحالف العربي» أتت أيضاً عبر «قبّة باط» أميركية لتكون رسالة إلى الرياض بأن واشنطن تفهم أولوياتها وهي عازمة على إبلاغ طهران رسالة فحواها: كفى في اليمن. وعلى رغم ذلك، مفيد جداً أن يتحول اليمن إلى «نموذج» للتفاهمات وليس نموذجاً «للبدء في محادثات» بين السعودية وإيران. فاليمن حالة مختلفة تماماً عن العراق أو سورية أو لبنان لأن اليمن في الحديقة الخلفية للسعودية. وإيران تدرك ذلك تماماً وتعرف ما عليها أن تفعله لو أرادت حقاً الطمأنة. في إمكان طهران إثبات حسن النوايا في العراق حيث المصلحة الإيرانية والعربية تقتضي العمل معاً على أسس واضحة غير مذهبية لسحق «داعش» وبناء الثقة في حكومة واعية تمثل جميع القطاعات الشعبية العراقية – طائفياً ودينياً وإثنياً. فلا مجال لسحق «داعش» عبر ميليشيات شيعية ومن دون مشاركة فعلية من سنّة العراق وعشائره الفاعلة. في سورية وفي لبنان، تعرف طهران بوضوح ما هي خريطة الطريق إلى «الجار ثم الدار». فالمفيد ليس إعادة هيكلة مبادرات قديمة ذات عناوين رنانة فيما الأفعال الإيرانية على أنماطها المعهودة. المطلوب إجراءات جدّية وصادقة تقفز إلى الكف عن إغراق اليمن وسورية في الكارثة وإلى حماية العراق ولبنان من كوارث آتية إليهما. وطهران تعرف تماماً ما في وسعها أن تفعل. الدول الخليجية، من جانبها، تعرف بدورها ما عليها أن تقوم به لتشجيع النقلة المرجوة في العلاقة العربية – الإيرانية. لا يكفي لها أن تعتقد أن شكوك وهموم دول مجلس التعاون تمثل ضغطاً استراتيجياً على طهران وأن شغف إيران للقبول الدولي بها سيؤدي إلى اتخاذها قرار اللجم الاستراتيجي لـ «الحرس الثوري» أو لـ «حزب الله». واجب الدول الخليجية هو الاستفادة من والتأثير في ديبلوماسية الانفتاح الإيرانية. وحسناً فعل وزير خارجية قطر بالترحيب بالاتفاق النووي والدعوة إلى حوار جدي مع إيران. اختيار الدوحة لعقد اللقاءات الثنائية والثلاثية والموسعة ما بين كيري ولافروف ووزراء خارجية مجلس التعاون، لافت لا سيما أن قطر متهمة بلعب أدوار تعارضها واشنطن وموسكو بالذات في إطار دعم المجموعات المتطرفة. وعليه، أن التحوّل الذي حدث بين واشنطن وأنقرة الأسبوع الماضي يتلاقى مع التحوّل الأميركي – الروسي مع قطر هذا الأسبوع، كلاهما يصب في ضمان التعاون التركي – القطري الفاعل في الحرب على «داعش» وإغلاق صفحة الدعم المفترض – الذي تنفيه تركيا وقطر – للمجموعات المتطرفة في سورية. بوادر الحلحلة هذه تتطلب أكثر من أي وقت مضى من الدول الخليجية صياغة استراتيجية انفتاح على الانفتاح الإيراني وتشجيع الإقبال الأميركي – الروسي على طمأنتها. فلا يكفي لها أن تقبل أو ترفض أو تتحفظ أو تتهم أو تحمل الشكوك والهموم. هذه مرحلة تتطلب من دول مجلس التعاون الخليجي رسم الخطوات الآتية باستراتيجية ذكية وبراغماتية. وهي قادرة لو اتخذت القرار.