كتب فهمي هويدي مقالاً في «الشروق» المصرية بعنوان «عن السخرية السياسية»، نعى فيه هذا الفن في العالم العربي. وهو تحدث عن اعتزال المقدم الأميركي الشهير جون ستيوارت، قائلاً: «لم يكن جون ستيوارت مسطحاً ولا مهرجاً، لكنه قدم نموذجاً ناجحاً للسخرية التي توظف المرح لإنارة العقل وإذكاء الوعي وتعرية السياسيين أمام الرأي العام، وذلك نوع من الإعلام اختفى من العالم العربي باستثناء لبنان، لأنه لا يبرز أو ينتعش إلا في أجواء الحرية والديموقراطية»، وذكّر القراء بغياب باسم يوسف، الذي اعتبر توقف برنامجه دليلاً على «ضيق الصدور»، وإن شئت هزيمة حرية التعبير. الفن الساخر في شكله الراهن له جذور في الثقافة العربية. وأحد أمثلته فن الهجاء في الشعر العربي، الذي تقاس قوة تأثيره بمدى قربه أو بعده من هذا الفن. لكن المناخ العام في المجتمع العربي اليوم بات ينفر من فن السخرية، ويضيق عليه، وهذا مؤشر لا يقبل الجدل الى انخفاض سقف حرية التعبير في المنطقة، فضلاً عن أن هذا الفن هو أكثر الفنون شراهة للحرية، وتطوره مرتبط بمقدار مساحتها. ومن يقرأ تاريخ هذا الفن في الغرب يجد أن هذه الدول مرت بما نمر به اليوم، من رفض وتضييق على فن السخرية، واعتباره استهزاء بالقيم وتحقيراً للأشخاص، وحين تقرأ بعض ما يردده بعض الدعاة الإسلاميين اليوم، في حربهم على هذا الفن، تحس أنهم نقلوا كلامهم عن نظرائهم الغربيين قبل قرون. فن السخرية كتابة جادة بمضمون مضحك، بمعنى أن لها هدفاً ودوراً. لكن الثقافة المحافظة لا يمكن أن تتصالح مع هذا الفن، الذي من أهم شروطه أنه غير انتقائي في مواضيعه. ولهذا نجح خصومه في وضع أسلاك شائكة في مسيرته، وجرى التعامل معه بطريقة تقليدية، موغلة في التشدد، وصاروا يعرّفونه على طريقة الفقهاء، فيتحدثون عن مفهومه لغةً واصطلاحاً، وهو عندهم لغةً يعني التسخير والتذليل والقهر، أما اصطلاحاً، فقالوا عنه أكثر مما قال مالك في الخمر، وبالغ بعضهم الى درجة جعله يتنافى مع الحرية التي يتنفس فيها، باعتباره اعتداء سافراً على حرية المجتمع والفرد، واستدل آخرون بالقرآن، وهو استدلال متعسف، وأصبح بعضهم يحاكمه بالمنطق، على رغم أن هذا الفن يعيش حال خصومة مع المنطق، بل ينمو ويزدهر كلما تخلّى عن الرؤية المنطقية للأشياء، فضلاً عن أنه ميال بطبيعته إلى السلبية المطلقة، ولا يكترث بالتوازن. لكن سر عداء المحافظين لهذا الفن، أنه سلاح فاعل للتشكيك في ما يعتقد بعضهم أنه عظيم، وهو -كما أشرت في مقال سابق عن هذا الفن- يلعب دور الشك في الفلسفة، لكنه يفضي إلى نهايات سعيدة . لا شك في أن لبنان، كما أشار هويدي، هو البلد العربي الوحيد الذي ما زال هذا الفن يتنفس فيه بحرية، ولعل تناقض السياسيين وعدم منطقية السياسة في لبنان، ساعدا على بقائه حيّاً في هذا البلد. حتى المغرب ازدهر فيه هذا الفن على رغم التضييق عليه في الآونة الأخيرة. الأكيد أن الأوضاع السياسية والاجتماعية في منطقتنا بحاجة إلى فن السخرية أكثر من أي وقت مضى. ما يجري في بعض الدول العربية سخرية سياسية تثير ضحكاً كالبكاء، ويعجز عن كتابتها أعظم الساخرين في الأرض. من جريدة الحياة