أَيولد من هذا المخاض الدموي الهائل جديدٌ ما؟ هل ما يعصف في القلب والعقل والفكر والوجدان ينبت بعده زرع خصب وافر الثمار؟ أم تعيدنا النكبات المتتالية الى كهوف الظلام، وتدفعنا الى قاع ليس له قرار؟ وهل من درك أسفل من هذا الذي بلغناه حيث غربان الموت والخراب والفتنة تنعق على ما تبقى من بلاد أو أشباه بلاد. كلُّ مخاض تسيل فيه دماء، وما من ولادة بلا أوجاع وآلام مبرحة. الرجاء كل الرجاء ألا تؤدي هذه الولادة القيصرية الى وفاة الوالدة والمولودة معاً، ولعل معشر المتشائمين يقول إن هذا ما قد حصل بالفعل، مُستدلاً بكل ما حولنا من موت عميم وخراب عظيم. في الأوقات الحرجة واللحظات المفصلية تكثر الأسئلة وعلامات الاستفهام، لأن هول ما يجري يدفع أصحاب العقول الى التساؤل بحثاً عن أجوبة شافية ونوافذ أمل. السؤال بذاته دليل عافية وعلامة حياة، السؤال ضرورة أياً كان الجواب، بل حتى لو لم يكن ثمة من جواب على الإطلاق، لماذا؟ لأن السؤال أهم من جوابه. الجواب القاطع يتركنا في حال من التبلد والكسل والاسترخاء، فالقابض على يقينياته لا حاجة به لبحث أو تمحيص، أما الشكّاك فلا شيء يقنعه أو يرضيه، يظل في حالة ثورة وغليان، دائم البحث والتفتيش، ومن هذا التفتيش بالذات يولد الجديد، لولا الأسئلة الكبرى لما وُلدت حركات ابداعية وتيارات فكرية غيرت وجه الحياة. حين تكون دائم البحث فهذا يعني أنك على قيد الحياة وفق شمس التبريزي. كل مَن يقفل باب البحث والسؤال يحكم على نفسه بما يشبه الموات، سواء كان فكراً أو عقيدة، منعُ الاجتهاد يعني المرواحة والنكوص، والتطلع نحو ماض مضى الى غير رجعة عوض مستقبل مقبل بغمضة عين، الغلبة فيه للأسبق علماً وفكراً لأن فتوحات اليوم لم تعد جغرافية كما السابق بل صارت علمية تكنولوجية أولاً. عدم التجديد يؤدي حكماً الى التقليد، تقليد الأقوى المسيطر الذي يعيق امكانية تقدم سواه مهما تماهى المُقلد (بكسر اللام) مع المُقلَد، أو تقليد السلف الصالح والطالح على السواء من دون أي تمييز بينهما، ومن دون الحسبان أن ذاك السلف (الصالح منه) سنَّ ما يتلاءم وعصره وزمانه، لم يقلد سلفه إلا في ما ندر وكان ملائماً لكل زمان ومكان. ما يصلح للأزمنة والأمكنة كلها هو الاستثناء، القاعدة أن يبحث كل جديد عن جديده، ولنا في حال الأمم المتقدمة أُسوة حسنة، ولمن يهوى التطلع الى وراء وترتاح نفسه لقديمه المُطَمْئن نحيله الى ما كان عليه حال السلف يومَ كانت دولته قوية مزدهرة متوهجة، يومها كان يبيح تلاقح الأفكار وتبادل الآراء ولا يخشى جديد الفكر والفلسفة غارفاً من كل نبع ومَعين، أما حين تعثر ووهن فراح يُكفّر ويجلد ويصلب ويقتل وينحر مقفلاً على نفسه الأبواب، غير مدرك أنه كان يقفل معها أبواب المستقبل ويرتد على عقبيه الى ما لا تُحمد عقباه. لأسباب شتى مركبة وعميقة منها استيلاء السياسة على الدين وتربع فقهاء السلاطين على سدّة الأمر والنهي، وسطو الجهّال على منابر العلماء، مترافقاً مع غياب التنمية والعدالة والديمقراطية وانتشار الفقر والبطالة والأمية، وسياسات القوى الاستعمارية قديمها وجديدها المعلن والمقنّع، وفشل معظم التيارات التي قامت في بلادنا باسم الإنسان وحقه في كل ما أسلفنا، وتحولها سلطات شمولية مستبدة. كلها أمور ساهمت في تقدم الدعاة الجهلة وأصحاب الفتاوى الماضوية، وتراجع الفقهاء والمفكرين النقديين المتنورين الذين يجيدون طرح الأسئلة، ويعيدون قراءة النص الديني على ضوء العصر ومستجداته، لكي نفتح كوة في نهاية هذا النفق المسطوم. تاريخية النص لا تلغي قداسته ولا تتعارض معها، وحق تأويله ليس وقفاً على مَن فعل من الأسلاف، وإلا نكون كمن يضع نص الفقهاء والمفسّرين في منزلة النص الإلهي، وهذا غير جائز طبعاً. متى أُتيحَ لأهل العلم حقاً، للفقهاء المعاصرين الكبار من مفكّرين ومفسّرين أن يقرأوا بعين زمانهم، نكون قد وضعنا حجر أساس في درب طويلة شاقة وعرة لمكافحة موجات التكفير والإقصاء على اختلاف تياراتها وتوجهاتها، وقدمنا وجهاً مشرقاً معاصراً للدين الحنيف بوصفه دين يسر لا عسر، ورسالة رحمة للعالمين جميعاً، لا فقط للمسلمين. *نقلا عن جريدة "الحياة" اللندنية