لا يمكن للعين ألا تلحظ جدارية الفنان جواد سليم وهي تحتضن آلاف العراقيين الذين خرجوا للتظاهر تحتها، طوال الأيام الماضية، في صدارة ساحة التحرير. كأن الجدارية المهيمنة على المشهد تمنح المتظاهرين الأحرار المحتجين على الفساد ظهرًا يستندون إليه، يصدّ عنهم غدر المهاجمين. أليس اسمها هو «نصب الحرية»؟ إنها تقف في أهم بقعة من بغداد، شاهدة على تحولات بلد لم تهادنه العواصف منذ أكثر من نصف قرن. ست وخمسون سنة والعراقيون ينتظرون أن تفي الحرية بموعدها معهم. يجلسون في أطراف ساحة التحرير مثل عمال الأُجرة اليومية «المسطر»، يتفرجون على مواكب الضباط الطامحين والانقلابيين المتنافسين والحزبيين المتعصبين والمحتلين الصلفين والديمقراطيين المزورين والطائفيين الجهلة واللصوص الذين سخروا من حكاية علي بابا والأربعين الذين فاقوا الأربعمائة حرامي. جواد سليم، النحات والرسام الرائد الذي ترك بصماته على أجيال عاصرته وجاءت بعده، لم يرغب في أن تكون الجدارية مرتفعة عن مستوى الساحة، معلقة وبعيدة عن المارة. وتروي زوجته لورنا أنه أراد لمنحوتاته أن تكون في متناول الناس، يقتربون منها ويتأملونها ويتلمسون قطع البرونز بأناملهم. لكن رفعة الجادرجي، مهندس نصب الحرية، خشي أن يتسلق الصبية الجدارية أو أن يكتبوا أسماءهم على صفحتها ويهدروا هيبتها. وحتى هذا «الإهدار» لم يكن يقلق النحات، فهو كان يؤمن بأن أي عمل فني من هذا النوع يكتسب مزيدًا من الجمال حين يترك الناس بصماتهم عليه. وفي النهاية انصاع الفنان لرأي المهندس. أنجز جواد سليم تخطيطات الجدارية في بغداد ثم سافر إلى مدينة فلورنسا الإيطالية لينجز المنحوتات الأربع عشرة تمهيدًا لصبها في مصهر هناك. وكانت له الحرية المطلقة في اختيار الأسلوب الفني للشخصيات الظاهرة فيها: العامل والفلاح والمثقف وأم الشهيد والطفل الوليد. باستثناء منحوتة الجندي التي أريد لها أن تكون كلاسيكية الطابع لمقاتل يرتدي البزة العسكرية ويحمل السلاح، دون شطحات حديثة أو تجريدية. وكان محمد غني حكمة، تلميذ جواد في معهد الفنون، قد سافر إلى إيطاليا لإكمال دراسته. وهناك التحق بأستاذه في فلورنسا ليساعده في تحقيق مشروعه الكبير الذي سيكلف 30 ألف دينار. يا للهول. (كم مليار دولار أهدر النهّابة الجدد؟). اكتملت المنحوتات وجرى شحنها إلى العراق حيث اللوحة الرخامية البيضاء منصوبة وجاهزة لاستقبالها. وكان جواد في منتهى السعادة لأنه نال فرصة تحقيق جدارية بمثل هذا الحجم في أبرز ميادين العاصمة. وهو ما لم يحظ به أي فنان عراقي من قبل. وفي نهار شتائي بارد من أوائل عام 1961، صُفّت القطع البرونزية حسب ترتيبها على الرصيف، أمام الجدار الأبيض المرمري العالي والشاسع، بمواجهة جسر الجمهورية، استعدادًا لتعليقها في مكانها. وتسلق النحات الشاب خالد الرحال الجدارية ودعا صديقه جواد إلى الالتحاق به لرؤية المنظر البديع. ولم يصبر صاحب العمل فتسلق النصب ليطل على المنحوتات من فوق، رغم ما كان يشعر به من إرهاق. لقد رأى جهده مكتملاً للمرة الأولى والأخيرة. وفي اليوم التالي أصابته ذبحة صدرية قضت عليه وهو دون الثانية والأربعين من العمر، قبل رفع الستار عن أشهر عمل فني عراقي. ما زالت جدارية الحرية منتصبة في ساحة التحرير. يلتقط زوار بغداد التصاوير التذكارية معها ويتأملها ركاب حافلات النقل العام وهم في طريقهم إلى جامعاتهم وأعمالهم. وفي وقت مضى كان العاشقون يجلسون على حافاتها مشتبكي الأيدي. واليوم يختلي السكارى والمدمنون في أركان مظلمة خلفها. مرت من تحتها، ذات يوم، دبابة أميركية فلم تتزحزح. وقالوا إنها ستسقط على رؤوس المارة ولم تسقط. وهي، رغم الإهمال ونقص الصيانة، تقف وتحنو على المتظاهرين في كل المناسبات الوطنية. تمنح أفياءها للمطالبين بالحق وبمحاسبة الوزراء والنواب عديمي الضمير. وهناك من يقول إنه رأى في الأيام الماضية، بين حشود المتظاهرين، وجوه جواد سليم، ولورنا، ورفعة، ومحمد غني، وخالد الرحال، وفائق حسن، وشاكر حسن آل سعيد، وسعاد العطار، وإسماعيل فتاح، ونهى الراضي، وعطا صبري، وسهام السعودي، وكل الذين رسموا الوجه الحقيقي لعراق عريق ومتحضر.