يعيش الفلسطينيون هذه الأيام على هامش الأخبار. وكرس هذا التهميش، طغيان الخلافات الفلسطينية و صراع «الأبوات». ومن يقرأ بعض روايات الأدباء الفلسطينيين، يدرك ان «المناضلين» انشغلوا بالتنافس على مناصب الدولة ومكاسبها قبل ولادتها. وإذا استمرت حال السياسيين الفلسطينيين فسوف تتحول القضية الفلسطينية الى حكاية يطويها النسيان. لكن الشعراء الفلسطينيين وقفوا بالمرصاد لهذا العبث، وحدهم من حمى القضية من الاندثار. النضال المعنوي هو الذي يحمي فلسطين من الغياب. الشعر أبقى على القضية حية في وجدان الفلسطينيين والعرب. ومحمود درويش وسميح القاسم هما حارسا هذه الحماية، هما «شطرا البرتقالة الفلسطينية»، كما شبههما الروائي الفلسطيني الراحل أميل حبيبي. قصائد «شطري البرتقالة» لم تحمِ فلسطين من النسيان فحسب، بل أسّست لنضال أشد قوة وتأثيراً من الأسلحة الفتاكة التي توجهها إسرائيل الى المواطنين العزل، فأعلنت إسرائيل الحرب على القصيدة كما يقول محمود درويش في رسالة الى سميح القاسم: «أعلن الإسرائيليون الرسميون الحرب على القصيدة التي لم تكتب بعد، وعلى القصيدة التي كتبت». فلسطين ضاعت بالاحتلال والهزائم والمفاوضات وخلاف «الأبوات». لكنها بقيت عصيّة على النسيان والضياع في قصائد سميح القاسم ومحمود درويش. يوم كتب محمود درويش قصيدته «عابرون في كلام عابر»، غشى إسرائيل فزع وجودي، خاف الإسرائيليون من الوعي الجديد الذي انطوت عليه القصيدة. فدرويش عاود صوغ شعر النضال الفلسطيني في هذه القصيدة على نحو مدهش. نقله من الحماسة والانفعال والتهديد والانتقام، فصيّر الكلمات حجراً من سجيل، واستلهم الانتفاضة، والتقط بعدها الإنساني والحضاري، واستعاد من الإسرائيليين صفة الضحية التي استباحت بها إسرائيل كل القيم والأخلاق. استعاد مفتاح النصر وصك الأرض. عاود رسم موازين القوة، ووصف المشهد، برؤية الحكيم وحنكة السياسي وجرأة الشاعر، «منكم السيف - ومنّا دمنا. منكم قنبلة الغاز - ومنّا المطر. وعلينا ما عليكم من سماء وهواء، فخذوا حصتكم من دمنا... وانصرفوا». عبر محمود درويش، بالقضية الفلسطينية إلى شواطئ الأمل، وحماها من النسيان. وسميح القاسم، حقق الهدف عينه في قصيدته «تقدموا». وهو كان الشطر الثاني لأبيات درويش، ولا يقل عنه إبداعاً، ومن يقرأ قصيدته، «تقدموا» سيجد انها ألهمت محمود درويش قصيدته «عابرون في كلام عابر». في مقطع من قصيدة « تقدموا» يقول سميح، «تقدموا... بناقلات جندكم. وراجمات حقدكم وهددوا... وشردوا... ويتّموا. وهدموا.. لن تكسروا أعماقنا. لن تهزموا أشواقنا. نحن قضاء مبرم..». من يقرأ قصيدة «عابرون»، يشعر بأجواء «تقدموا» في جنباتها، كأن «عابرون « شطر في «تقدموا»، والعكس صحيح. كان سميح مبدعاً كبيراً، لكن نجومية درويش طغت على وجوده المبدع. يوم الأربعاء الماضي، مرّ عام على رحيل سميح القاسم، رحم الله شطري الشعر والبرتقالة. صحيفة الحياة