2015-10-10 

سفّاح القفص الزجاجي

داود الشريان

في السينما، يبدأ الفيلم بمشهد قتل، أو جريمة. يتوارى الفاعل، طوال أحداث الرواية. يظهر في المشهد الأخير، وينكشف سره. خلال أحداث ما يسمى الربيع العربي، ظهر في المشهد الأول أشخاص، كان لهم دور فاعل في تحريك الأحداث التي عصفت بدول وشعوب. لكنهم اختفوا فجأة، ولم يظهروا مطلقاً. كأن الأرض انشقت وابتلعتهم، على رغم أنهم أداة الشرارة الأولى. هؤلاء الذين اختفوا من مشهد الربيع العربي، ناشطون ومثقفون وحزبيون، ومعارضون وسياسيون، وربما انتهازيون أيضاً. لكنهم يشبهون «سفاح نهر التايمز»، في رواية «القفص الزجاجي» للكاتب الإنكليزي كولن ولسون الذي كان يقتل ضحاياه بطريقة بشعة، ويترك إلى جانب جثثهم أبياتاً من قصائد الشاعر الإنكليزي وليم بليك، المتصِف شعره بالعنف والقلق والخوف. كانت طريقة السفاح، في قتل الضحايا، تشبه الصُّوَر التي يرسمها بليك في شعره، ما دفع المحقّقين إلى البحث عن مهتمين بقصائد الشاعر للوصول إلى القاتل. وتكشف تحقيقات الرواية أن القاتل كان مثقفاً، لكنه كاره وحاقد، وجد في الجريمة وسيلة للتعبير عن الصراع في داخله. وتشير أحداث الرواية الموحشة إلى أن رئيس المفتشين تولّى البحث عن القاتل بنفسه، وقرر أن يصل إليه عبر دراسة الشاعر. تعرّف المحقق إلى أحد المهتمين بشعر بليك الذي قدّم وصفاً للقاتل المثقَّف، قائلاً إن «المثقف يملك قدرات أكثر من الآخرين على ارتكاب الجرائم»، وهو كلما اتسعت ثقافته، زاد حقده وكراهيته ورفضه للمجتمع من حوله، ويقرر نص الرواية نتيجة مفادها أن «سفاح نهر التايمز» له ملامح الفنان. السفاح في رواية ولسون، كان يجد في الجريمة وسيلة لتدمير ذاته، لأنه يعيش صراعاً عنيفاً ضد نفسه، ويعاني إحساساً رهيباً بالذّنب والقهر، ويعتقد بأن هناك شيئاً خاطئاً في هذا العالم، فيسعى إلى تغييره بطريقة عنيفة. وهو ربما حاول الانتحار مراراً وفشل، لذلك فإن جرائمه تعبّر عن عملية انتحار تحولت إلى عنف ضد الآخرين. من يتأمّل الأحداث التي مرّت ببعض دول الربيع العربي سيتذكر أن بعض أبطال المشهد الأول، كانوا من النخبة. لكنهم تصرفوا على طريقة «سفاح نهر التايمز»، تركوا شعاراتهم إلى جانب جثث الضحايا، وخراب المدن، وانصرفوا، أو فروا. تنتهي أحداث رواية «القفص الزجاجي» بتوصُّل الناقد وصديقه، بالتحليل والاستنتاج، إلى أن القاتل مات منذ زمن طويل. وكان ضخم الجسم، ميسور الحال، وهو ربما أقدم على جرائمه للتعبير عن كُرهِه لشخص أجبره على قراءة شعر وليم بليك. ترى، ماذا قرأ أبطال المشهد الأول في الربيع العربي، وما هي عقدهم وأهدافهم، وهل ماتوا، أم لا يزالون أحياء ينتظرون محققاً بارعاً، يكشف لنا سرّهم ونجواهم.

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه