2015-10-10 

السعودية والطوائف

عبدالله بن بجاد العتيبي

السعودية بلد ضخم المساحة، ويمكن لمن ينظر للخريطة أن يرى دول الهلال الخصيب بكل تاريخها وحضارتها كيف تبدو من حيث المساحة بحجم بضع إمارات في شمال السعودية، وحجم المساحة مقرون بتنوع السكان واختلافهم واختلاف جوانب متعددة من مذاهبهم وعقائدهم، إنْ على مستوى الإيمان، وإنْ على مستوى السلوك، ولكلٍّ مذهبه ومدرسته. ربما لا يعلم الكثيرون من خارج السعودية حجم التنوع والتعدد في التركيبة الديموغرافية للسكان في البلد الواسع، ولكن في السعودية تعدد في الطوائف وتنوع في المذاهب واستيعاب للمدارس الصوفية في السلوك، وغير ذلك من أشكال الاختلاف في تكوينات البشر القبلية والمدنية، وميولهم الطائفية أو السلوكية أو الفقهية؛ ففي السعودية على مستوى الطوائف أكثريةٌ سنيةٌ ومعها شيعةٌ اثني عشرية في المنطقة الشرقية، وفي منطقة المدينة المنوّرة، وكذلك فيها إسماعيلية في منطقة نجران، وفيها المذاهب الفقهية الأربعة، وإن كان المذهب المعتَمَد للدولة في القضاء هو المذهب الحنبلي، وهو أمرٌ مفهومٌ، فإن ذلك لم يمنع قط من الاستفادة من علماء الحنفية والشافعية والمالكية في هيئة كبار العلماء وفي غيرها من الوظائف الدينية، وكذلك في الفتوى العامة، كما فيها عدد من المدارس الصوفية، خاصة في الحجاز ومنطقتي مكة المكرمة والمدينة المنورة. لقد وعى القائد السياسي هذا التنوع في بلاده الشاسعة منذ القديم، ولنأخذ هنا الموقف تجاه المواطنين الذين ينتمون للطائفة الإسماعيلية في نجران، الذين عاهدهم الإمام سعود بن عبد العزيز في الدولة السعودية الأولى وجدد العهد معهم الإمام فيصل بن تركي في الدولة السعودية الثانية.. عهدٌ بضمان أمنهم وأمانهم وعدم التعرض لهم بسوءٍ، وهو العهد الذي جدده معهم مؤسس الدولة السعودية الثالثة والسعودية الملك عبد العزيز. لقد كانت الرؤية واضحةً في ذهن القائد المؤسس: لا نتدخل في عقائد الناس ومذاهبهم، ولكن بشرط ألا يحدثوا ظواهر أو مظاهرات تمس السلم الأهلي أو تثير الفتنة، وهو منطق الدولة، وقد قال الملك عبد العزيز لتأكيد هذا المبدأ: «فإننا لسنا عنصريين ولا من دعاة التفريق والتمييز بين الناس، بسبب أنسابهم وعقائدهم»، وكرر التأكيد عليه في موضع آخر بقوله: «لا يسأل أحد عن مذهبه أو عقيدته. ولكن لا يصح أن يتظاهر أحد بما يخالف إجماع المسلمين، أن يثير الفتنة». وتأكيدًا لهذا السياق، وفي الموقف من المواطنين من الطائفة الشيعية، فإن الملك عبد العزيز قال لأمين الريحاني: «هذا الحسا، عندنا هناك أكثر من ثلاثين ألفًا من أهل الشيعة وهم يعيشون آمنين لا يتعرض لهم أحد. إلا أنا نسألهم ألا يكثروا من المظاهرات في احتفالاتهم». لقد كان الملك عبد العزيز شديد الوعي في التفريق بين موقف السياسي وموقف الفقيه تجاه التنوع الكبير في بلاده، ولما جاءه مرةً بعض المشايخ برسالة في الردّ على الشيعة يريدون السماح بنشرها، أخذها منهم، ثمّ في اليوم الآخر «سلّمهم الرسالة، مليئةً بالحذف والإثبات، بخطه وقلمه، وقال لهم: إنّكم أصحاب دينٍ ولستم أصحاب سياسةٍ». وقد سار على نهجه أبناؤه الملوك كلٌّ بحسبه، سعود وفيصل وخالد وفهد وعبد الله، والأمر أكثر جلاءً في عهد ملك الحزم الملك سلمان، الذي يقاتل أبناؤه من شتى الطوائف والمذاهب والمدارس في حربه العربية الكبرى «عاصفة الحزم» التي يقودها لحماية بلاده ومواطنيه وحماية الدول العربية وشعوبها، وهو الذي قال في خطابه في الديوان الملكي في بداية توليه مقاليد السلطة في البلاد: «إن كل مواطن وجزء من أجزاء وطننا الغالي محل اهتمامي ورعايتي ولا فرق بين مواطنٍ وآخر ولا بين منطقةٍ وأخرى»، وأضاف: «ونؤكد حرصنا على التصدي لأسباب الاختلاف ودواعي الفرقة والقضاء على كل ما من شأنه تصنيف المجتمع، مما يضر بالوحدة الوطنية، فأبناء الوطن متساوون في الحقوق والواجبات». وقد قام خادم الحرمين الشريفين بزيارة حاجةٍ إيرانية ممن تضرروا من حادثة الرافعة في بيت الله الحرام بمكة الأسبوع الماضي، وكان لتلك الزيارة أكبر الأثر أمام دعايات الخصوم الإقليميين التي تعتمد الطائفية رسميًا في دستورها وسلاحًا سياسيًا لمهاجمة دولنا ومكرًا خبيثًا لزعزعة استقرارنا، وضرب أمننا ووحدتنا الوطنية بالعمليات الإرهابية وخلايا التخريب والتجسس. والمواطنون من شتى الانتماءات يشاركون في أمن الوطن وفي كل مؤسساته العسكرية والاقتصادية والتنموية دون تمييزٍ، لأن منطق الدولة يختلف دائمًا عن أي منطقٍ أضيق منه، سواء أكان ذلك المنطق طائفيًا أم مذهبيًا أم سلوكيًا أم غيره. لم تزل الدولة السعودية منذ عهد المؤسس إلى عهد ملك الحزم تولي العناية الفائقة لمواطنيها دون تمييزٍ، وقد وصل المواطنون من طوائف الأقلية لأعلى المراتب، فكان منهم مستشارون في الديوان الملكي وسفراء أمناء وتجارٌ مخلصون وغيرهم في شتى مواقع المسؤولية. لقد رأى العالم كله كيف توحدت قبائل نجران بشتى انتماءاتها تحت راية الوطن والدفاع عن حياضه واستقبال القوات المسلحة من شتى القطاعات وتقديم الدعم الكامل لها منذ بداية عاصفة الحزم، ثم إن السعودية كخادمةٍ للحرمين الشريفين لم تفرق يومًا بين طوائف الحجاج أو مذاهبهم أو مدارسهم السلوكية، بل هي ترعى الجميع وتخدم الجميع وتوفر كل سبل الراحة لهم، وقد أمر الملك سلمان بمساعداتٍ ماليةٍ ضخمةٍ لكل «الشهداء» والمصابين وبمعاملتهم معاملةً واحدةً، مع حفظ حقهم الخاص في محاكمة المخطئ دون أي تفريقٍ أو تمييزٍ. عودًا على بدءٍ؛ ففي حروب الدولة السعودية الأولى، وحين وصلت بعض المعارك مع أهل نجران إلى مدينة الحائر جنوب الرياض، وتعاهدوا مع قادة الدولة السعودية الأولى، رفضوا كل إغراءات خصوم الدولة السعودية آنذاك والتزموا بالعهد والميثاق، وقد عاهدهم لاحقًا الإمام سعود بن عبد العزيز، وفي الدولة السعودية الثانية جدد معهم العهد والميثاق الإمام فيصل بن تركي (1862م)، وفي الدولة السعودية الثالثة جدد معهم العهد والميثاق الملك عبد العزيز، وهم في عهدهم وميثاقهم إلى اليوم، وفي ذلك تفاصيل كثيرةٌ يمكن الرجوع إليها للمختص. أخيرًا، فإن أي سعي لتطييف الصراع السياسي في المنطقة إنما يقوده طرفان؛ إيران كدولةٍ عدو، والراديكاليون كإسلام سياسي أو جماعات عنفٍ، وكلاهما عدو للدولة السعودية، والمواطنون السعوديون من شتى الطوائف هم مواطنون مخلصون، ومن شذّ عن طائفته وخان بلاده تُخضِعه القوانين والأنظمة، وتبقى الوحدة الوطنية واللحمة الاجتماعية هي الأولوية. * نقلاً عن "الشرق الأوسط

التعليقات
أضف تعليقك
الأكثر قراءة
مواضيع مشابهه