هل أحب الشعر؟ لم أحب شيئًا مثلما شغفت به. هل أحب النثر؟ لم يأخذ من عمري شيء مثلما أخذ، ولم يعطني شيء مثلما أعطاني. هل أحب الرياضيات والفيزياء والكيمياء؟ إلى الآن لا أعرف جدول الضرب. ولا أعرف عن نظرية النسبية سوى اسم صاحبها. لكنني أعرف الأشياء الأكثر بساطة التي يُفترض بجميع البشر تعلّمها. وهي أن الشعر الجميل والنثر الأصيل وابن عربي وابن الأثير لا يبنون منزلاً واحدًا ولا يصنعون جناح طائرة ولا يخترعون (أو يركبّون) علاجًا واحدًا. والعالم في حاجة إلى أن يعيش، وأن يتقدم وأن يستمر. وهو يعيش حياة أعمق وأجمل وأثرى مع الشعر ومع نثر الروائيين الروس، ومع الفلسفة الألمانية، ومع الفكر الفرنسي، ومع الحكمة الصينية ومع المسرح الأميركي. لكنّ حركته سوف تتعطّل وتتباطأ، وزراعته سوف تجدب، وعقاقيره لن تُخترع من دون هندسة مدنية وكهربائية وزراعية وكيميائية. ارتبط مصطلح النهضة برؤى مختلفة، أكثرها فكري وفني وفلسفي، أو تحديثي كما في النهضة العربية. لكنّ بعض كبار مفكري الغرب رأوا أن النهضة هي فقط العلوم التجريبية التي أدّت إلى الصناعات وتدجين العناصر. وذهب العالِم البريطاني فرانسيس بيكون إلى حد القول إن أرسطو وأفلاطون، أهم رمزين في الفلسفة، ليسا سوى سفسطائيّين. وقال إن أرسطو ثرثري بائس وغيبياته أشبه بغزل العناكب. وأما أفلاطون فقال فيه إنه «أبله ومزيف». وكان بيكون يدعو إلى دراسة العلوم العربية، لأنها تقود إلى المنطق والفكر العملي ووسائل التقدم في الحياة. إننا نعظّم الشعراء والأدباء والمفكرين الذين صمدت أعمالهم عبر الزمن. وأنا تهزّ مشاعري قصيدة من أحمد شوقي، ولا أفهم معاني اكتشاف جبال جليدية على الكوكب بلوتو. ولكن من دون اختراع الحبر والورق والطباعة ووسائل النقل، ربما لم يصلني من شوقي شيء. الأدب والأفكار في حاجة هي أيضًا إلى وسائل تنقلها وتنشرها وتحفظها عبر الزمن. أصيب الرئيس أمين الحافظ (لبنان) بقلّة السمع وخفض النظر في سنواته الأخيرة. وكان من عشّاق شوقي وحفّاظه. وفي لقائنا الأسبوعي كان يتلو من شوقي سواء حضرت المناسبة أو لم تستدعِ الحبكة. وسألته ذات مرة كيف يحفظ إلى الآن كل تلك القصائد؟ فقال، يشير إلى نظّارتيه وسمّاعتيه: لولا هذه، لكنت الآن نصف ما أنا، وربما أقل. لا يتناقض الشعر والنثر والفكر مع صناعة الحياة. اليونان لا تزال عند أرسطو وأفلاطون، وألمانيا لا تزال تنشد شعر غوته، لكنها تصنع أفضل الأدوية والسيارات والقطارات، وتولّد الطاقة من الهواء الضائع في الهواء. نقلا عن الشرق الأوسط