حين يخترق سمعك كزائر عابر لبلدان الغرب الأوروبى حوار بين عامل نظافة ونادلة فى مقهى، يخبر فيه الأول الثانية بأنه لن يتمكن من القدوم إلى المقهى خلال الأيام القادمة نظرا لسفره إلى باريس فى إجازة سريعة للترفيه عن النفس، وتقترح هى عليه بعض المتاحف والمطاعم المتميزة لزيارتها فى العاصمة الفرنسية مؤكدة على أنها لن تكلفه كثيرا؛ وكمواطن فى مجتمع يعانى أكثر من ربع سكانه من الفقر وفى دولة يباعد انهيار مستويات الخدمات الأساسية بين أغلبية أهلها وبين الحياة الكريمة لن يكون أمامك من أنماط ردود الأفعال الأولية غير أن تصرخ فى حسرة وغضب وبأعلى صوتك لاعنا الفجوة المعيشية والحضارية الشاسعة بين أغنياء العالم المعاصر وشعوبه المتقدمة وبين شعبك. وبعد رد الفعل الأولى، ستتراوح مشاعرك على الأرجح بين الغيرة والحسد والحقد تجاه من يعيشون فى مثل هذه الرفاهية التى تسمح لعمال النظافة ونادلات المقاهى، ومع كامل التقدير لمهنهم المحترمة ولإخلاصهم فى أداءها، بالسفر خارج حدود بلادهم لأغراض الترفيه والسياحة. وقد تنجح فى التسامى على الحسرة والغضب وتغلب المشاعر الإنسانية الإيجابية على سلبية الغيرة والحسد والحقد، فتغبط الأغنياء على تراكم الثروات فى مجتمعاتهم والمتقدمين على تفوق بلدانهم. وبعد رد الفعل الأولى ومراوحة المشاعر الإنسانية السلبية والإيجابية، أغلب الظن أنك ستعمل ذهنك لبعض الوقت فى أسباب تراكم الأزمات المعيشية كالفقر والبطالة والأمية فى مجتمعك، وغياب الخدمات الصحية والتعليمية المقبولة وخدمات السكن والرعاية الاجتماعية اللائقة عن أغلبية مواطنى دولتك، وتخلف شعبك الحضارى مقارنة بمن يواصلون رحلة البشرية نحو التقدم أو يجتهدون للالتحاق بها. عندها، ووفقا لقناعاتك وانحيازاتك ومعارفك، ستضع يدك على سلاسل متشابكة من الأسباب سيحضر بها التاريخى المتمثل فى الاستعمار والاستغلال طويل المدى للشعوب الفقيرة ونحن فى مصر من بينها من قبل الأغنياء والمتقدمين، والمعاصر المتعلق أيضا بتواصل الاستغلال عبر حقائق الاستعمار الجديد والتبعية التى تفرضها مراكز تراكم الثروة والتكنولوجيا والعلم واقتصاديات السوق الرأسمالية فى الغرب الأوروبى والأمريكى ومناطق قليلة متفرقة على بقية شعوب العالم، والعالمى الناتج عن تكالب القوى الكبرى على مصر وبلاد العرب واستتباعهم لنا والإقليمى الذى يحدثه تغول غير العرب على العرب وتواصل الاستعمار الاستيطانى الإسرائيلى، وسيحضر بها الداخلى الاقتصادى والاجتماعى المرتبط بغياب التقدم العلمى وتعثر عمليات التنمية المستدامة ومحدودية كفاءة أجهزة الإدارة العامة وضعف القدرة التنافسية للقطاع الخاص، وكذلك سيحضر بها الداخلى السياسى الناجم عن السلطوية طويلة المدى فى بلادنا وانتهاكات الحقوق والحريات المتراكمة على نحو يومى وسيادة القانون وتداول السلطة والعدل ورفع المظالم وجميعها عنوان النواقص الجوهرية فى مصر. وقد يحضر أيضا بسلاسل الأسباب المتشابكة العوامل البشرية وثيقة الصلة بأنساقنا القيمية والفكرية التى ما عادت تحض على الصدق والإخلاص والأمانة والاجتهاد، وما عادت تدفعنا للسلم الأهلى ونبذ العنف والتسامح وقبول الآخر والتعلم منه حال تفوقه وتميزه، وما عادت تطرح علينا من رؤى غير نظريات المؤامرة وأحاديث المظلومية التى لا تتغير ولا تمكننا من ممارسة النقد الذاتى أو الإدراك الواعى لمسئوليتنا عن تأخرنا وانهزامنا الحضارى. والآن، هل ستعود بعد رد الفعل الأولى وبعد مراوحة المشاعر السلبية والإيجابية وبعد إعمال الذهن فى أسباب الفقر والجهل والتأخر والانهزام، إلى حياتك الاعتيادية ومشاغلك اليومية، أسرية ومهنية، وتستقيل مجددا من الاهتمام بشئون مجتمعك ودولتك وأحوال ناسك؟ أرجوك لا، حاول التغيير بسلمية فى محيطك الخاص والمباشر إن لم تقدر على العمل العام. دون ذلك، لا نجاة ولا خلاص لنا أبدا. غدا.. هامش جديد للديمقراطية فى مصر. *نقلا عن الشروق المصرية