العرب- رغم أنه لا توجد توقعات بصدام سعودي إيراني مسلح مباشر لأن الصدام غير المباشر حاصل عبر بوابة اليمن، إلا أن الصفحات السريعة التي تتحرك على ساحة المواجهة تشير إلى توترات حدثت بسرعة بين العراق وإيران بعيد استلام الخميني للسلطة في طهران وتخييره باحترام شروط الضيافة عندما حصل الاتفاق الشاهنشاهي – الصدامي، وهو تاريخ مليء بالعبر يتذكره العراقيون المحبون لبلدهم أكثر من غيرهم. ليس المقصود إثارة شجون العاطفة الوطنية والعروبية في استحضار صفحة التاريخ المؤلم القريب بين العراق وإيران، لأنها حرب خلفت أكثر من مليوني ضحية من الطرفين ودمارا ما زالت آثاره قائمة ولم تهدأ النفوس بعد. كانت حربا خدعت فيها كل من إيران والعراق، ولم تنزح مرارة كأس سم الهزيمة العسكرية الذي تجرعه الخميني بقبوله السلام إلا بعد أن تحقق الثأر بسقوط نظام صدام حسين والدولة العراقية عام 2003.
تصعب المقارنة الآن لأن المعطيات الجيوسياسية مختلفة، فإيران ليست جارة للسعودية مثلما هو العراق، والعامل الزمني ترك آثاره لصالح هيمنة إيران على المنطقة بعد سقوط العراق بيدها إلى جانب كل من سوريا والجزء الحيوي من لبنان، لكن هناك الكثير من حقائق الأيديولوجيا والتاريخ تركت بصماتها خلال الثلاثين سنة الأخيرة. فولاية الفقيه وتصدير الثورة لم يعودا مقبولين داخل إيران، وهما مرفوضان بشدة لدى الشيعة العرب في العراق. الوسائل الإيرانية القديمة وأدواتها ضد خصومها لم تعد مؤثرة اليوم، فلا شعارات “الاستكبار العالمي” أو “الموت لأميركا” عادت صالحة، هناك انكشاف كبير، لكن حضور صيغ جديدة للإرهاب وبينها داعش خلال السنوات الأخيرة يغطي على الانكشاف الإيراني الخاسر. ومحاولة إيران بعث صيغ الصراع والحرب لتحقيق أهداف ولاية الفقيه لم تعد مجدية، واختيار السعودية بعد نهاية العراق له أهمية، لأن إيران تواجه تحديا أيديولوجيا من قبل السعودية لكونها حاملة لراية الإسلام عربيا وعالميا، وإيران لا تسمح رغم صعوبة ذلك عليها لأنه يكشف أهدافها، كما أن لعبة “الأيديولوجيا الدينية والمذهبية” مؤذية لشعوب المنطقة لكنها تخدم مخططات الكبار.
مراجعة ما يحصل على ضفاف الخليج العربي مهم لأنه يمس وضع شعوب المنطقة المتطلعة للاستقرار والسلام. هناك مفردات مهمة من حلقات الصراع العراقي الإيراني الذي كان حتميا لوجود نظامين قوميين في طهران وبغداد يشكلان قطبي الصراع التاريخي القديم، وصدام حسين حين دخل الحرب كان الشعار العروبي القومي هو عنوانه وليس الإسلامي الطائفي، فقد استطاع حشد أكثر من نصف مليون مقاتل شيعي قاتلوا إيران لثماني سنوات. صدام لم يكن يملك أطماعا في إيران، لكنه كان حالما بالزعامة القومية، وشعر بأن الخطر دخل أبواب بغداد، ووجد أن الهجوم العسكري يكسر جموح الخميني الحالم ببغداد مثلما خليفته خامئني يحلم اليوم بمكة، لكن ما كان مخططاً كان أكبر منه ومن معه. مفردات الصراع السعودي الإيراني، اليوم، قد تقود إلى الصدام المسلح إذا ما سمح الكبار رغم تأكيدات الدبلوماسية السعودية باستبعاد ذلك، فالمناخ شبيه بما حصل قبيل وبعد الحرب العراقية الإيرانية.
الجانب السعودي يدير دبلومامسية هادئة ورصينة، رغم المآخذ على طريقة التعاطي مع الأزمة الحالية، من حيث القدرة على عدم جعل الأمور تفلت عن السيطرة. على الجانب الإيراني أوكل خامئني لقيادة الحرس الثوري المرتبطة به إدارة المعركة السياسية والإعلامية والعسكرية إن تطلب الأمر. ولا دور لوزارة الخارجية إلا في دفاعها المتأخر والفاشل عن الهجوم على السفارة السعودية في طهران والذي خسرت فيه إيران جميع أسلحتها الدبلوماسية في محاولة جلب التعاطف الدولي حول قضية إعدام رجل الدين السعودي نمر النمر. ولعل من الملفت للانتباه أن تأخذ مضامين الحملة الإعلامية لعساكر الحرس الثوري منحى تصعيديا، في محاولة لاستعادة التاريخ الدامي بين العراق وإيران. فقد قال نائب القائد العام للحرس الثوري، حسين سلامي، الذي يتنبأ بـ”سقوط النظام السعودي كتساقط قطع الدومينو وسيدفن تحت الانهيار الذي أحدثه” وربطه ما بين نظام صدام والنظام السعودي “المسار الذي يسلكه النظام السعودي مثل المسار الذي سلكه صدام في الثمانينات والتسعينات. لقد بدأ حربا مع إيران وأعدم رجال دين بارزين ومسؤولين كبارا وقمع المعارضين، وانتهى به الأمر إلى ذلك المصير البائس». المواطن السعودي الذي أعدمته حكومته لاتهامات تتعلق بأمنها لا يستحق كل هذه الحملة الطائفية. فعالم الدين هذا ليس إيرانيا وكان إعدامه مع عدد من المتهمين بالإرهاب، كما أنه ليس رمزا أو مرجعا شيعيا. ولعل التاريخ يستحضر واقعة إعدام المرجع الشيعي العراقي محمد باقر الصدر عام 1980 من قبل نظام صدام قبيل انفجار الحرب العراقية الإيرانية، وما قيل عن عملية إيقاع مدبرة من قبل الخميني لدوافع الصراع الإيراني العربي لزعامة المرجعية حين وجه للصدر رسالة عبر إذاعة طهران العربية يناشده فيها بالبقاء في العراق لقيادة “الثورة” واستلام الحكم، مما دفع بصدام لإعدامه وشقيقته بنت الهدى، ويقال إن الوثائق الخاصة بهذا الملف أصبحت بعد الاحتلال بيد الراحل أحمد الجلبي.
إن توقيت إعدام النمر ليس صحيحا، ويبدو أن المعركة تدار بعيدا عن ألاعيب المخابرات ووسائلها، قال لي قبل أيام أحد الأصدقاء الأطباء المختصين في بريطانيا “كان ممكنا للسعودية أن تعلن بأن رجل الدين النمر مصاب بمرض عقلي وتحيله إلى أحد المحاجر الصحية وينتهي الأمر”. تستعيد الذاكرة النشاط السياسي والإعلامي والعسكري الذي اشتغلت عليه طهران لإثارة القلاقل داخل العراق منذ أواخر عام 1979، لأن هذا البلد كان الهدف الأول لتصدير الثورة الخمينية، إلى جانب الحملة التي استهدفت السعودية لدعمها العراق في حربه مع إيران من بينها حادثة مكة عام 1987 التي راح ضحيتها أكثر من ألف حاج نصفهم إيرانيون واشتعال حرب السفارات.
في العراق وقبيل الحرب العراقية الإيرانية جرت محاولة في بغداد لاغتيال وزير الخارجية الراحل طارق عزيز من قبل عناصر من حزب الدعوة عام 1980، ثم تكثفت حملات التفجيرات من قبل هذا الحزب بتوجيه من طهران، ولعل حزب الدعوة هو أول من ابتدع هجمات الانتحاريين والسيارات المفخخة في عملية تفجير مبنى الإذاعة والتلفزيون ببغداد عام 1982 ومبنى وكالة الأنباء العراقية وقيادة القوة الجوية، وكذلك تفجير السفارة العراقية ببيروت عام 1981، حيث قتلت زوجة الشاعر الراحل نزار قباني العراقية بلقيس الراوي. وحاليا تقام دعوى من قبل ضحايا التفجير وبينهم عائلة زوجة نزار قباني موجهة إلى السلطات اللبنانية تتهم أبو إسراء المالكي الذي كان مسؤول الجناح العسكري في حزب الدعوة والذي اتخذ من دمشق منطلقا لنشاطاته، ومعه الشيخ محمد عبدالحليم الزهيري وعماد أبو مغنية بتلك الحادثة. المعطيات الحالية تشير إلى تراجع إيراني في سوريا وهزيمة في اليمن، لذلك تتشبث إيران بالعراق “تاج الامبراطورية” لكن المعركة مع السعودية خاسرة بجميع المقاييس، خصوصا مع ضغط الكبار من أجل حل شامل تشارك فيه إيران، هل سيكون ذلك الآن أم يحصل بعد أن تتعب دول المنطقة وشعوبها أكثر؟