العرب - خلال الأسبوعين الماضيين قام بعض الجنرالات والسياسيين، وعلى رأسهم وزير الدفاع السابق الجنرال المتقاعد خالد نزار، والجنرال المتقاعد محمد بتشين الذي شغل في السابق منصب رئيس جهاز الأمن العسكري في أوج انفجار الأزمة الجزائرية عام 1992، وحليمة الشاذلي زوجة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد وغيرهم، بفتح ملف العشرية الدموية وأسبابها، وأحداثها وتداعياتها التي لا تزال تنخر جسد الدولة الجزائرية. ولكن يلاحظ أن شهادات هؤلاء متضاربة بشكل ميّع الحقائق وجعل المواطنين لا يصدقون ما يقال وما ينشر. والغريب أن جهاز الرئاسة وعلى رأسه الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وحاشيته يتنزّه من بعيد على خلط أوراق هذه المرحلة الحساسة، التي لا تزال تداعياتها المؤلمة تؤثر سلبا في الحياة الجزائرية الشعبية والسياسية، من طرف رموز النظام نفسه الذي لعب دورا مفصليا في إشعال الفتنة.
وزير الدفاع السابق خالد نزار حمّل مسؤولية ما حدث طوال العشرية الدموية للسياسيين الذين أدخلوا حسب رأيه الجزائر في ظلمات الاقتتال، واستبعد الجيش والأمن من هذه المسؤولية في الوقت الذي اعترف بأنه لعب دورا أساسيا في إلغاء المرحلة الثانية من الانتخابات التشريعية بعد أن فازت جبهة الإنقاذ الإسلامية بالدور الأول من تلك الانتخابات. واتهم الجنرال نزار رئيس المجلس الوطني الشعبي (البرلمان) الأسبق عبدالعزيز بلخادم بحل البرلمان لقطع الطريق على جبهة الإنقاذ، ولفتح المجال للجيش والجهاز الأمني ليستولي على السلطة في ذلك الوقت. غير أن بلخادم ردَ على الجنرال نزار يوم الاثنين الماضي بالقول بأنه “لم يحل البرلمان ولم يُستشر وسمع بالقرار عبر التلفزيون الرسمي”. كما أن اتهام نزار لرئيس الوزراء الأسبق مولود حمروش بأنه هو من “اتخذ قرار إطلاق النار على معتصمي جبهة الإنقاذ الإسلامية” قوبل بالتكذيب من طرف حمروش.
ولا شك أن تدخل أرملة الرئيس الراحل الشاذلي بن جديد في هذا الجدل تميّز بأنه من العيار الثقيل. خلافا لتصريحات خالد نزار قالت حليمة بأن زوجها الشاذلي بن جديد قبل بنتائج الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية التي فازت بها جبهة الإنقاذ ورفض إلغاءها وتمسك بما أفرزته الإرادة الشعبية. ويعني هذا أن من ألغى الدور الثاني من تلك الانتخابات ليس هو بل الجيش وعلى رأسه خالد نزار والجهاز الأمني العسكري. ونفهم من كل هذا أن زوجة الرئيس الراحل الشاذلي تحمَل، ضمنيا، الجهاز العسكري مسؤولية العشرية الدموية.
وفي الحقيقة فإن ملابسات تلك المرحلة مسجلة بشكل دقيق في الجزء الثاني من مذكرات الشاذلي بن جديد التي لم تنشر إلى يومنا هذا، بعد نشر الجزء الأول منها في كتاب تناول مرحلة الكفاح الوطني المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، وذلك جرَاء منع جهات عليا في النظام الجزائري صدور الكتاب لأنه يحتوي على أسرار تنحيه من منصب رئيس الدولة والصراع على السلطة بعد ذلك، وعلى تفاصيل ملف الأزمة التي توّجت بالصراع المسلح بين جبهة الإنقاذ الإسلامية، وبين الجيش ومختلف الأجهزة الأمنية التابعة للنظام حينذاك. ولا شك أن منع صدور هذا الجزء الثاني من مذكرات الشاذلي بن جديد يعني بوضوح الحجر على الحقائق التي تدين المسؤولين الحقيقيين على إدخال الجزائر في دوامة العنف، وتحمَلهم مسؤولية إجهاض أول تجربة انتخابية تعددية عرفتها البلاد.
وفي الواقع فإن كل شيء يمكن أن يكتب في الجزائر سوى التاريخ الوطني الحقيقي، سواء تعلق الأمر بالتاريخ القديم، أو بحركة التحرر الوطني، أو بأحداث العشرية الدموية التي سقط فيها ما يقدر بربع مليون جزائري. إن إخفاء الحقائق عن الشعب الجزائري يجعل المصالحة الوطنية، التي تعتبر الرأسمال الوحيد لفترة حكم عبدالعزيز بوتفليقة عرجاء خاصة أن المشرفين عليها، ليست لهم الشجاعة لمصارحة الشعب الجزائري بالحقائق. ولا شك أن طمس هذه الحقائق والتستر عليها يدخلان في إطارين نمطيين فرضا على الشعب الجزائري وهما، ثقافة الدكتاتورية السائدة في دواليب النظام الجزائري في مرحلة الاستقلال، ونزعة طمس التاريخ الوطني ونتيجة لكل هذا فإن المصالحة الحقيقية مع التاريخ ومع الذات لم تحدث بعد في الجزائر.