الحياة - «نحن لا نشكّل تهديداً لأي شعب أو حكومة»... العبارة لحسن روحاني أمام مجلس الشورى الإيراني، وليس معروفاً كيف أمكنه التلفظ بها وهو يعلم جيداً أنها كذبٌ فاقع. كان عليه، توخّياً للدقّة والصدق، أن يسأل أهل مضايا والزبداني وبلودان وبقّين ودير الزور السورية، وأهل ديالى وتكريت وبعض بغداد العراقية، وأهل تعز اليمنية، وأهل بيروت اللبنانية، وأهل البحرين، عما اذا كانت ايران تشكّل تهديداً لهم أم لا. فـ «خبراؤها» الموجودون على الأرض وميليشيات «حزب الله» اللبناني وجماعة «أنصار الله» الحوثية ورديفاتها العراقية كـ «أبو فضل العباس» والأفغانية كـ «الفاطميون» ليسوا قتلة وإرهابيين فحسب بل إنهم مهندسو حصارات التجويع وشركاء مباشرون في هذا العار الإنساني.
وإيران هي التي تحرّض المعارضة في البحرين على العدوانية بدل الحوار، وهي التي حوّلت «حزب الله» من «مقاومة» لإسرائيل من جنوب لبنان الى أدوات لغزو بيروت، وأما «الحرس الثوري» فهو المشرف والمشارك في سفك دماء هذه الشعوب جميعاً.
لكن الرئيس الإيراني معذور، فليس في ملفات مجلس الأمن الدولي أي شكوى من دولة عربية ضد ايران، ولا في قرارات القمم العربية والجامعة العربية، والقمم الخليجية وبيانات مجلس التعاون، سوى كلام عام يرفض «التدخل الإيراني» أو يدعو ايران - بتهذيب وحصافة - الى «وقف تدخلاتها».
لماذا؟ لأن الدول مسلوبة الإرادة، كالعراق وسورية ولبنان، واليمن قبل الانقلاب الحوثي، فتكت الانقسامات بوطنية حكامها وسلبت قرار حكوماتها وأفقدتها حسّ تمييز السيادي عما هو خضوع يبلغ حدّ التماهي مع قوة خارجية مثل ايران يعلن مسؤولون فيها على الملأ أنهم يسيطرون على أربع عواصم عربية. اشتغلت ايران بدأب على تلك الانقسامات، وجعلت التعددية وبالاً على تلك الدول وتهديداً «ذاتياً» لها، حتى أن الاستلاب بلغ بوزير الخارجية «اللبناني» حدّ «التضامن» مع إيران - ضد السعودية - «حفاظاً على الوحدة الداخلية» اللبنانية، كما قال، وطبعاً لا وحدة ولا من يوحّدون، لكن الوزير تصرّف لمصلحة حزبه الذي غدا منذ تحالف مع ايران رأس حربة الانقسام الداخلي.
كان روحاني يتحدّث بعد لحظات على بدء التنفيذ الرسمي لرفع العقوبات عن ايران، معتبراً أن الاتفاق النووي والمفاوضات التي سبقته يمثلان «صفحة ذهبية» في تاريخ بلاده. وكان من شأنه أن يمجّد هذا الإنجاز الذي انتخب على أساسه وجعله استراتيجية كبرى لحكومته، وها هو يعتبره «حصيلة مقاومة وحكمة وتدبير شعب يعارض الحرب والعنف»، أي أنه أدخله في «الإيديولوجية الجهادية»، مستذكراً «شهداء الملف النووي الذين علمونا أن العزّة والفخر هما ثمرة الجهاد والصبر»...
ولا في أي لحظة اعترفت ايران، لذاتها لا للآخرين، بأن هذا «الملف» كان خدعة للذات، بدليل أن اللحظات الوحيدة التي اعتبرت فيها ايران دولة ذات صدقية هي لحظات تطبيقها الاتفاق، ولم تفدها طوال عقد ونيّف تصريحات المرشد بأن «الإسلام يحرّم اقتناء سلاح نووي». وبالتالي فإن إيران صوّرت سعيها إلى العقوبات جهاداً ومقاومةً وتصوّر الآن رفع العقوبات على أنه انتصار، ناسية أن عشرات الدول حول العالم أنشأت مفاعلاتها النووية للأغراض السلمية من دون أي أزمة على الأطلاق، وأن دولاً كثيرة خامرتها أحلام الحصول على «القنبلة» وتخلّت عنها من دون أن تضع اقتصادها خارج خريطة التجارة العالمية أو تعرّض مواطنيها لمستوى عيش بائس باعتماد «استراتيجية الاقتصاد المقاوم».
لا يجهل الرئيس الإيراني أن التضحيات التي قدّمها الشعب كانت أكبر بكثير من نتيجة «الانتصار» الذي تحقق بفضل الاتفاق النووي. نعم، هناك الإنجاز العلمي، وقد حقّقه علماء إيرانيون يُشهد لهم، من دون أن يعلموا أنه سيفضي إلى هذا المآل الكارثي الهجين: واحدٌ من أكثر نتاجات التقدّم العلمي حداثة في تصرّف أكثر العقول المؤدلجة تخلّفاً، بل واحدٌ من الإنجازات التي يُفترض أن تضمن للأمّة أمنها ورفاهها تحوّل في أيدي الملالي و «الحرس الثوري» لعبة لإفقار الأمّة وإذلالها. وإذا كانت عقول هؤلاء العلماء عملت بأقصى طاقتها مدفوعةً بهدف إعلاء شأن إيران، ومعها إعلاء شأن الإسلام، فلا شك في أن لهاث البلد وراء رفع العقوبات ونيل الرضا الأميركي والمسارعة إلى تفكيك المفاعلات وترحيل اليورانيوم المخصّب وبيع المياه الثقيلة لم تكن النتيجة المُستَحقَّة لجهدهم.
فإيران ربحت برنامجها النووي وخسرت عقدين من التراجع الاقتصادي، وكسبت وهم «مكانة دولية» متجدّدة لتخسر وهم العَظَمة النووية الذي رشت به الداخل لإسكاته ولم يعد هناك سبب لسكوته، لكنها بالتأكيد لم تُعلِ شأن «المقاومة» ولا شأن الإسلام بل وضعتهما في أكثر الاختبارات إجحافاً وانتهازيةً. فمعها غدت المقاومة شعاراً لتغطية أبشع الجرائم، ومعها غدا الإسلام مجرّد وسيلة للفتن والمجازر وتنكيل المسلمين بالمسلمين.
حدّد روحاني هدفين لما بعد الأزمة النووية: الأول للداخل وهو «تنمية بلادنا وتحسين رفاهية الأمة»، والآخر للخارج وهو «إرساء الاستقرار والأمن في المنطقة». كان الأفضل أن يقتصر على الأول، فهو بالكاد يستطيعه، حتى مع عشرات مليارات الدولارات التي ستستعيدها إيران، وهي حقّ للشعب الإيراني في أي حال.
أما بالنسبة إلى الخارج فبرهنت إيران ما تستطيعه من عبث وتخريب، ومن دعم للإجرام والاستبداد والإرهاب، ولا داعي للمزيد منها، فهذا ما تعرفه وما طبّقته على أرض الواقع، وقد أهّلها سلوكها للتأزيم والتخريب، أما أن تكون مؤهلة للمساهمة في الاستقرار فهذه قصة أخرى. ذهبت إلى مقارعة «الشيطان الأكبر» مشتهيةً اكتساب كل سيئاته، وانبرت إلى محاربة «المجرم الإسرائيلي» محققة كل أهدافه بل ماضيةً أبعد في تجسيد كل أحلامه السوداء ضد العرب، ولا نهاية حقيقية و «منطقية» لمغامرةٍ كهذه إلا بالتماهي مع هذين الشيطانين تطبيعاً ومصالح مشتركة.
إذا اعتُبرت عهود المحافظين الإيرانيين أسوأ ما عرفه العرب فإن عهود الإصلاحيين كانت أوقاتاً مستقطعةً لإضفاء مسحة من الجمالية الخادعة على ما يبيّته المتشددون. لكن حسن روحاني ليس محمد خاتمي الذي أنهى عهده منسجماً فعلاً مع ابتسامته وخطابه وهو يُحاسَب الآن عليهما. فخلافاً لخاتمي يبدو الرئيس الحالي أكثر تشبعاً بأفكار المرشد واقتناعاً بأهداف «عصابة الحُكم»، أي أنه إصلاحيٌ في ما يعني الداخل ومتشدد في ما يعني الخارج، يريد الداخل قوياً لتتمكّن إيران من الحفاظ على «مكاسبها» و»عربدتها» الخارجيتين اللتين سيتخذهما أدواتٍ في «البزنس» الاقتصادي والسياسي مع العالم. قد يُوجب حسن النية الأخذ في الاعتبار أن روحاني يسلك طريقاً طويلاً ولا يمكن الحكم على مراميه منذ الآن،
إلا أن واقعيته تبطئ رهاناته الافتراضية أو المتخيّلة، والواقع الإيراني بالغ الوضوح في غلبة الميكيافيلية الإيديولوجية على أي عملية سياسية، وهيمنة السلاح على عمل الحكومة والمؤسسات، ووطأة «الحرس الثوري» واستخباراته على فاعلية القانون والقضاء. وإذا أضفنا سيطرة «الحرس» على جانب كبير من الاقتصاد، من خلال استثماره في «الاقتصاد المقاوم» (العقوبات)، فإن التنمية التي يتأهب لها روحاني لا بدّ أن تتكيّف مع هذا الواقع أيضاً. وبذلك تكون إصلاحيته في خدمة المحافظين وتشدّدهم.
مرّة أخرى، يبدو الرئيس الإيراني معذوراً، فالإدارة الأميركية ذاتها تفاوض الإصلاحيين وتلاطف المحافظين لأنهم عصب النظام وسلاحه وسياساته، ولم يُسجّل لها أنها أزعجت المتشدّدين في أي مغامراتهم العدوانية في المنطقة العربية. ومن يرصد مواقف واشنطن من أزمات الأعوام الخمسة الماضية يخرج بحصيلة مفادها بأن اميركا لم ترِ ولم تسمع بأي دور لإيران، لا في سورية ولا في العراق واليمن أو في لبنان والبحرين، ولا حتى في تأجيج الإرهاب.
ومع أن باراك أوباما نسب لذاته «الحزم» في «التنديد» بـ «سلوك إيران المزعزع للاستقرار» إلا أن التنديد لم يشكل يوماً سياسةً يعتدّ بها، وهو لم يمنع تدخلات إيران واستمرارها. لكن أوباما حرص على الإشارة إلى انتهاكات حقوق الإنسان وبرنامج الصواريخ الباليستية، باعتبارهما مشكلتين لا تزالان قائمتين مع إيران، أما الصواريخ فطُوّرت في ظلّ العقوبات ورغماً عن أميركا، وأما حقوق الإنسان فغالباً ما تنساها أميركا حين تحصل على مصالحها.