العرب - لا يوجد خطر على إيران من الانفتاح على الغرب، لا توجد ثقافة عند الغرب تشكل خطرا على الدولة. ثورتهم كانت ضد احتكار الشركات الأجنبية الكبرى للاقتصاد الإيراني، وأن الشاه حاول تغريب المجتمع، وأهمل طبقة كبيرة من الفقراء والقرويين. كان المهندس الأميركي يعمل بشركة بيل طهران بمرتب عشرة آلاف دولار شهريا، بينما راتب نظيره الإيراني الذي يقوم بالعمل ذاته مئة دولار فقط.
الشعب اختار نظاما قريبا من طبيعة الأغلبية وثقافتها الأبوية الشرقية. لقد فشل مشروع الشاه بتغريب المجتمع الإيراني وتحويل طهران إلى باريس الشرق. بكل تأكيد هناك نخبة قد تتذمر وتسبب مشاكل في حال وجود انفتاح على الغرب، إلا أن ذلك لا يكفي لهز سياسة قوية كالسياسة الإيرانية. إيران ليست فقط منسجمة مع هويتها وتعي منجزات ثورتها وتضحياتها، بل تعرف أنها صاحبة مشروع وانتقلت إلى طور الشراكة مع الولايات المتحدة في أمور كثيرة أهمها الحرب على الإرهاب.
إيران دولة غير قلقة في منطقة قلقة كما في الربيع العربي، بل تكاد ترى تصدعات في تركيا ولا ترى شيئا كبيرا في إيران. ماذا سيجلب الانفتاح لإيران سوى الرفاه؟ المرأة الإيرانية متحررة ضمن هويتها، والرجل الإيراني لا يهاجر لسبب آخر سوى النقود، ومعظمهم يشعر بعد سنوات قليلة بالضجر ويعود إلى بلاده.
إن تغريب شعب متمدن كالشعب الإيراني غير ممكن لأن لإيران مصلحة في نظامها الحالي. يستطيع شعب إيران أن يثور في أي لحظة كما فعل ذلك عدة مرات، لكن من الواضح أن الأمور ليست بذلك السوء، ثم أن النظام يظهر الكثير من التواضع وهذا ما يحب أن يراه الشعب. شخصيات مثل خاتمي وروحاني وأحمدي نجاد هي شخصيات متواضعة.
لا يقلب النظام في إيران شيء كالغطرسة. شعب شيعي يحب التذمر من نظامه، إلا أنه مجرد كلام يشبه تذمر شيعة العراق من الذين ينتخبونهم باستمرار. السؤال هو هل يستوعب الإسلام الشيعي الانفتاح على الغرب؟ الجواب نعم. التكنولوجيا في إيران متطورة والدليل صناعة السيارات، والجامعات بمستوى رفيع رغم الحصار والعقوبات. الخبراء هناك يعلمون بأن الديمقراطية تهدد الاستقرار، لهذا جعلوا نظام ولاية الفقيه مع انتخاب الحكومات حلا وسطا. الشيء الآخر أن التجربة أثبتت بأن الشعب الإيراني يستقر في نظام أبوي كولاية الفقيه، أكثر من استقراره في نظام غربي متغطرس.
تجربة إيران تشبه الصين ولا تشبه الاتحاد السوفييتي. السؤال هو هل تستحق إيران نظاما ليبراليا غربيا يشبه النظام الكندي مثلا؟ لقد أجاب السيد علي خامنئي على هذا السؤال في حديثه عن رئيس الحكومة الأسبق محمد مصدق (ت 1967) الذي كان علمانيا ليبراليا يحب الأميركان، ولكنه وطني دافع عن ثروات الإيرانيين وأمّم النفط.
النتيجة هي أن المخابرات الأميركية خططت لانقلاب واحتلال البلاد من السفارة الأميركية بطهران، وقد اشتركت القوات البريطانية والأميركية باحتلال البلاد وإعادة الشاه، وتم سجن مصدق ثلاث سنوات ليخرج ويموت تحت الإقامة الجبرية في بيته. لهذا وافق الخميني على اقتحام السفارة الأميركية بطهران، وأخذ الرهائن. وكان السبب الأكبر أن ضابطا في المخابرات الأميركية قد نشر كتابا عن تفاصيل الانقلاب على مصدق، وقال إنهم قد أداروه من مبنى السفارة، الأمر الذي أغضب الوطنيين الإيرانيين كثيرا.
أعتقد بأنه آن الأوان لنكون صادقين مع أنفسنا، ونكف عن التناقض في خطاباتنا المتعلقة بإيران، حتى نصبح مقنعين، ولا نخسر ثقة شبابنا الذين يلتحقون بالدولة الإسلامية أو بالزندقة ورفض الهوية كل يوم. فهل “الروافض” أحفاد ابن العلقمي حلفاء الصليبيين واليهود كما يقول إمام الحرم المكي؟ أم أن إيران نظام إسلامي متطرف لا يمكن للولايات المتحدة الثقة به، وأن العرب بالمقابل حلفاء موضع ثقة وأكثر إخلاصا للولايات المتحدة، كما يقول الكتاب السعوديون الليبراليون؟ هذا التناقض في الخطاب سيدمرنا في النهاية.
السؤال المهم اليوم ليس خطر الانفتاح على الغرب الذي ستواجهه الجمهورية الإسلامية، بل ما هو سبب الثقة والتحالف مع إيران؟ لماذا تعتقد الولايات المتحدة وبريطانيا أن إيران أنسب طرف للتعامل مع خطر القاعدة والدولة الإسلامية والإرهاب عموما؟ تنظيم داعش منتشر بشبه الجزيرة الواقعة بين العراق وسوريا، وصحراء سيناء، وصحراء ليبيا، وبعض صحارى أفريقيا. ينتشر في مناطق القبائل كما لاحظنا التعاطف الذي يحصلون عليه من قبائل الأردن وفلسطين. داعش يعدهم بالفتوحات والغنائم، ويطالبهم بالبيعة وهو يهدد بالانتشار في الجزيرة العربية البيئة الأمثل بالنسبة إلى المتطرفين الوهابيين.
فالقضية هنا بيئة وجغرافيا وثقافة معا. الحواضر والشعوب والمجتمعات غير القبلية في المنطقة متحالفة ليس ضد داعش فقط بل ضد البنية العربية القبلية، فهناك رأي يقول إن القضاء على داعش سيؤدي إلى ظهور منظمة أخطر منها، بسبب وجود بنية اجتماعية قبلية ذات عقيدة ومال في المنطقة العربية، ولا يمكن تفكيك هذه البنية دون مساعدة الصفويين أعداء العرب التاريخيين. إيران تقود هذا التحالف “الشعوبي” مع الأقليات المسيحية وغيرها. وأعتقد بأن انزلاق السيد سمير جعجع إلى حلف الأقليات مؤخرا وتأييده لمرشح حزب الله الجنرال ميشيل عون دليل على أن الشعوب كلها مصطفة اليوم ضد القبائل السنية العربية.
هذا لا يعني أنه لا يمكن الاستفادة من القبائل في المعركة ضد داعش، كما فعل السيد السيستاني بالحشد الشيعي، وكما فعلت الحكومة العراقية بالصحوات السنية “المرتزقة” لكنها معركة ضد التركيبة القبلية في النهاية لصالح التحالف الشعوبي من فرس ومسيحيين وحضر في المنطقة.
وقد لاحظنا تراجعا كبيرا لدور شيخ القبيلة الشيعي في السياسة العراقية بهذا العهد الساساني لصالح رجل الدين، مقارنة بسيطة بدورهم بالعهد الملكي تكشف بأن هناك تهميشا لبنية اجتماعية لصالح بنية أخرى، وكأننا في مرحلة انتقالية. إيران تحول قبائل العراق إلى تركيبة مشابهة للدروز مع الوقت، تركيبة طائفة وليس تركيبة قبائل عربية عادية. صراع النواة القبلية ضد النواة الشعوبية القديمة. تصفية حساب بين العرب والموالي تمتد إلى ما قبل الإسلام وفتح فارس والهلال الخصيب المسيحي. لقد سبق وسألت رجل دين إيراني لماذا تثقون بشيعة لبنان أكثر من العراق؟ فقال لأن شيعة لبنان شعب وليسوا قبائل.
داعش بالمقابل يجذب أجانب بالعقيدة الوهابية لكن نواتها وثقافتها قائمة على مجتمع قبلي، وعلى قيم القوة والبطش. العالم في معظمه ليس قبائل، وربما سيقف ضد القبائل. العالم مكون من شعوب، وقيمه وثقافته كلها ثقافة شعوب خاضعة للقانون.
الوهابية أساسا هي تحالف قبائل عربية مع دعوة سلفية. ليست مجرد فكرة فقط بل تركيبة اجتماعية، والحرب ستشمل الثقافة والتركيبة القبلية معا. يرى الفرس بأن العرب صنف خاص من البشر، مازال إلى اليوم يفخر بالنسب والقبيلة. فالقبائل الجرمانية التي هي أصل الألمان مثلا قد اختفت منذ قرون طويلة، كذلك قبائل الفايكنغ التي هي أصل الشعوب الأسكندنافية. العرب بنية مجتمع قديم جدا، وهذه البنية مندمجة مع الدين بفكرة التوحيد والفتح والجهاد والتكفير بطريقة لم يخترقها أحد في التاريخ سوى الفرس بالتشيع والتجارة والثقافة والذكاء.
وحدها إيران تستطيع أن تحول الشمري العربي الصحراوي، القادم من أسلاف صناديد يموتون على الرماح ضاحكين إلى إنسان رقيق يبكي على الحسين، ويستنجد بسيدة مثل زينب في الشدائد. إيران عندها خبرة قرون من ترويض القبائل العربية وهذا سر التحالف الأميركي معها. ربما سيعتمد العالم عليها لمكافحة الإرهاب، وقد يمنحها إدارة هذا الجزء من العالم بطريقة تضمن سيادة الشعوب وثقافتها على القبائل وثقافتها.
القبائل العربية السنية في العراق مثلا لا تعرف التظلم، لا تكتب قصيدة تراحم إنساني ولا أغنية، لا تنشر دمعة، ولا ترسم لوحة. إنها تنتقم وتثأر وتبطش وتفخر وتنشر قيم القوة حتى لو كانت في آخر نفس. ثقافة غابات قديمة وصحراء موحشة، لا يعترفون بالقانون والمدنيات، بل يريدون إثارة الخوف عند الجميع. القوة المفرطة تجعلنا وحيدين منبوذين بلا ذرة تعاطف. نتصرف كقبيلة جاهلية تهجم على العصر الحديث بالسيوف.
عندما كانت عندنا الموصل نصرخ “قادمون يا بغداد”، وعندما راحت الموصل صرنا نصرخ “قادمون يا موصل” وانتقلنا من تحرير العراق من الأميركان، إلى تحرير العراق من إيران، إلى تحرير العراق من داعش؟ لا يوجد عقل، مجرد قبائل ضالة في الوديان تمكنت منها إيران بمكرها وسياستها. خطورة اليمن من جهة أخرى، البلاد التي اختطفها الحوثيون كانت تمثل أهم تجربة إيرانية لقدرة الشعوب على احتواء القبائل العربية والتحكم بها. اليمن قبائل بالكامل وليس شعبا. تحاول إيران أن تحتويه بالثقافة فقط! تجربة خطيرة حقا والجيد أن السعودية قد انتبهت وقوضت ذلك المشروع في مهده.
هناك مشروع غامض في الأفق ليس متعلقا بإيران بل متعلق بمصيرنا كعرب. هناك حلف شعوب ضد القبائل لتجريدها من الثقافة والمال والسيادة والتخلص من خطرها. لا بد أن نواجه ذلك بكل ما نمتلك من وعي وسياسة وثقافة. نحن نتعرض لمشروع انقراض وأرحام وإبادة.
“يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.”