الاتحاد - تبدّل الزمن وصارت وسائل التواصل الاجتماعي في متناول كل الأفراد، وعندما يطلق القرضاوي أو غيره من المتاجرين بالدين تصريحاً متشدداً أو موقفاً ينحاز فيه لجماعات الإرهاب والعنف، تجد آلاف الردود تنهال عليه ما بين ساخرة وكاشفة وموضحة، وهذا يدل على تحوّل كبير نشهده على مستويين: الأول انكشاف المتطرفين وافتضاح فقر خطابهم وركاكة أطروحاتهم، مقابل انتشار مساحة لا بأس بها من الوعي بخطورة التطرف وضرورة مواجهته. والمستوى الثاني يتمثل في تمدد وسائل التواصل الاجتماعي وشعبيتها وسهولة استخدامها والتعبير من خلالها. وإذا كان المتطرفون بدورهم يستخدمون هذه الوسائط لنشر أفكارهم المتطرفة، فإن الصوت الآخر المجابه للتطرف لم يعد ضعيفاً، ولم تعد حيّل وأساليب المتشددين تنطلي على المجتمع، مهما تستر أولئك المتنطعون خلف واجهة الدين.
ومن المؤكد أن سلسلة طويلة من الأحداث والتداعيات عملت حتى الآن على مراكمة مساحة لا بأس بها من الوعي بخطورة التطرف وهشاشة منطق المتطرفين، الذين دأبوا على المتاجرة بالدين واستغلاله لأغراض سياسية ودنيوية لا شأن لها بالدين ذاته ولا بمقاصده وغاياته الروحية الصافية البعيدة عن الاستثمار والمتاجرة والتوظيف السياسي. وبالتالي، صارت الأسرة العربية أكثر حذراً وحيطة على أبنائها. وكذلك مع ارتفاع مستوى التعليم امتلك الأبناء بدورهم حصانة ومقدرة على النقد والتساؤل والمحاججة، بدليل ما حدث مؤخراً مع الداعية علي المالكي الذي قال في أحد البرامج التلفزيونية إن المرأة عار، فانهالت عليه التعليقات والاعتراضات حتى من قبل دعاة آخرين استنكروا قوله.
وكانت ظاهرة المتاجرين بالدين قد بدأت منذ ثمانينيات القرن الماضي، وفي البداية كانت منابر المساجد وأشرطة الكاسيت والكتيبات الصفراء هي الأدوات التي استخدموها لتحقيق الشهرة والنجومية القائمة على المتاجرة بالوعظ، ثم استغل العديد منهم البث التلفزيوني الفضائي وصار الوعظ الديني بالنسبة لهم مهنة تحقق الربح والشهرة. أما المرحلة الذهبية لهم فكانت أثناء أحداث أفغانستان التي استغلوها لتحريض الشباب على السفر للانتحار في معارك انتهت كما نعلم فيما بعد بالصراع بين فصائل ما يسمى بالمجاهدين أنفسهم، وتخلل أحداث أفغانستان ظهور بؤر أخرى مثل الشيشان وكوسوفو ثم الصومال، وانتهاءً بعصابات تنظيم «داعش» في سوريا والعراق. والغريب أنهم يدفعون بأبناء الآخرين إلى الانتحار باسم الجهاد، بينما يحرصون على إرسال أولادهم إلى جامعات أوروبا وأميركا للتعلم. كما أن ثرواتهم من المتاجرة بالدين لم تعد تخفى على أحد، فيما لا تخلو إجازاتهم السنوية من الرحلات إلى الغرب، وعلى المقلب الآخر نشرت مجلة «فوربس» تقريراً عن مليارات المتاجرين بالدين قبل سنوات قليلة، وكشفت أن رجال الدين في إيران يملكون ثروات شخصية تقدر بالمليارات!
أما الخزان التنظيمي الذي ظل الأكثر تصديراً للمتاجرين بالدين ولعناصر التطرف إلى مختلف الجماعات والتسميات، فهو تنظيم «الإخوان» بفروعه المختلفة وتنظيمه الدولي الذي تركزت قياداته في مصر وبعض الدول التي هاجروا إليها. ومن المعروف أن «الإخوان» في مصر، بلد المنشأ، قد دخلوا في مأزق وحالة انهيار شاملة يعيشونها الآن، وبالتحديد منذ ثورة 30 يونيو وما تلاها من يقظة شهدها الشعب المصري الذي أزال القبضة الإخوانية وفكك طموحها بالسيطرة على الدولة ومفاصلها عقب تسلق «الإخوان» للأحداث ومحاولة قطف ثمرة ما بعد ثورة يناير، وهذا ما دفع الإخواني المدعو يوسف القرضاوي إلى دعوة قيادات التنظيم لانتخابات مبكرة لاختيار قيادة موحدة لإنهاء انقسامهم ولملمة صفوفهم، بعد تشظيهم إلى أكثر من فريق، بين من يدعو لانتهاج العنف ومن ينصح بالسكون وامتصاص غضب المصريين للعودة مجدداً إلى الساحة لتحقيق الحلم القديم بالسيطرة والتمكين! وتقول آخر الأنباء إن القرضاوي فشل في إنهاء الانقسام الإخواني، ولا يزال الصراع حول قيادة التنظيم قائماً بين فريقين. ولعل من دلالات هذا الانقسام أنه يكشف جوهر التفكير الإخواني وأن أطماعه تتجه إلى التركيز على السلطة والقيادة بالدرجة الأولى.
ورغم تزايد انكشاف المتطرفين ونوازعهم المتصلة بالإرهاب والتحريض على العنف وتخريب المجتمعات، فإن الحاجة لمزيد من الوعي لا تزال ضرورية، لوقاية الشباب من آفة التطرف ومن الانجرار وراء الأفكار الظلامية ومَن يروجون لها.