العرب - في اسمها الذي تُصرّ عليه دولة إيران، فقدت إيران ( وتعني الكلمة أرض الآريين) ثلثي هويتها الفارسية وتحولت إلى مجرد “جمهورية إسلامية” أخرى. فحين قامت ثورة الشعب ضد شاه إيران الذي حرص على بناء مجد بهلوي يستلهم المجد الساساني القاجاري، أراد الشعب أن يغادر النظام الملكي إلى نظام جمهوري بأيّ ثمن، وما إن ركب الإسلاميون ظهر الثورة (في سعيهم لاستعادة بعض أنفاس الدولة الصفوية، كما يفعل الإسلاميون الآن في العالم العربي والإسلامي عموما) حتى سقط الشاه، ووجد الشعب والإسلاميون أنفسهم أمام فراغ سياسي، لا بد من سده، فولدت جمهورية ارتجالية سريعة، سماها روح الله الخميني بسرعة “جمهوري إسلامي” مستعيرا المصطلح العربي لملء الفراغ اللغوي في الفارسية التي لا توجد فيها كلمة تصف النظام الجمهوري إلا الكلمة العربية، فيما لا يجادل أحد أن كلمة “إسلامية” عربية، وهكذا بات ثلثا العنوان الرسمي للدولة عربيا (جمهوري إسلامي إيران).
قس على ذلك، فإن اللغة الرسمية التي سارت عليها الجمهورية الفتية في مؤسساتها الثورية الوليدة نحت في الغالب إلى الفضاء اللغوي العربي لسد الثغرات في اللغة الفارسية التي لم تعرف “مؤسسات ودستور دولة جمهورية إسلامية” من قبل ولم تصغ لها مفردات تناسبها.
واختارت الجمهورية الإسلامية لنفسها دستورا أسماه المشرعون “قانون أساسي كشور” وهكذا فإن ثلثي الوصف للدستور” قانون أساسي” عربي وما تبقى هي كلمة” كشور” وتعني دولة. أما كلمة دستور نفسها فهي كلمة عربية تتردد في الفارسية بمعنى قانون (وإن كانت بعض التفسيرات تقسّمها إلى جذرين فارسيين” دست” وتعني يد، ” ور” وهي تحريف معتاد عن جذر الفعل” أور” ويعني يجني أو يحقق أو يجلب أو بنجز)، لكن هذا بعيد الاحتمال.
ولست بصدد أن أؤسس هنا لبحث لغوي متخصص يرصد كل تحولات اللغة الفارسية وذوبانها عبر أربعة عقود من عمر الجمهورية الإسلامية في اللغة العربية إلى درجة أنّ المصطلح الرسمي والسياسي الإيراني بات في خطابه الرسمي يتعامل بنحو 65 بالمئة بلغة ومصطلحات عربية، فهذا متروك لمراكز الأبحاث المتخصصة بالشأن الإيراني عبر العالم وهي كثيرة (ولكنها مؤسسات غائبة في العالم العربي الذي ما فتئ ساسته يحذرون من التمدد الفارسي في الخليج وغيره.
لكنني أريد أن أعرض بشكل سريع طيفا من التغيرات التي يتعامل بها الإيرانيون كل يوم، ومن خلالها فقدوا أغلب هوية اللغة الفارسية الجميلة الثرية بسبب حرص المؤسسة الإسلامية القائمة على السلطة على ترويج المصطلح الإسلامي والذي هو بالتأكيد مصطلح عربي ينتمي غالبا إلى القرون السادس والسابع والثامن ميلادية حيث ولدت الدولة الإسلامية وامتدت وتوسعت.
سأعرض فيما يلي مدخل الدستور الإيراني “قانون أساسي كشور” ومنه سأصل إلى أفول اللغة الفارسية وتآكلها منهزمة أمام المصطلح العربي الذي يغزو مؤسسات الدولة في الجمهورية الإسلامية حاملا معه بالطبع آثارا عربية لا يدركها الإيرانيون في حماسهم المنقطع النظير لنشر الجمهورية الإسلامية كما تصورها السيد الخميني ربيب الحوزة الشيعية العراقية في النجف.
النصوص:
* أصل 1: حکومت إيران جمهوری إسلامي است که ملت إيران، بر اساس اعتقاد دیرینهاش به حکومت حق وعدل قرآن، در پی انقلاب إسلامي پیروزمند.
كلمة “أصل” 1 عربية ولو شاء المشرّع الفارسي أن يستفيد من مفردات لغتهم لاستخدم كلمة “رشته” في هذا المكان.
والكلمات العربية في مدخل النص: حكومت، جمهوري، إسلامي، ملت (مله)، أساس، اعتقاد، حق، عدل، قرآني، انقلاب (وتعني بالفارسية الإسلامية ثورة) في هذا السطر ونصف السطر المكون من 21 كلمة، ظهرت 11 كلمة عربية.
* أصل 2: جمهوری إسلامي، نظامی است بر پایه إیمان به: خدای یکتا (لا إله إلا الله) واختصاص حاکمیت وتشریع به او ولزوم تسلیم در برابر امر او.
مرة أخرى كلمة أصل 2 عربية، ثم كلمات: جمهوري، إسلامي، نظامي، إيمان، لا إله الا الله، اختصاص، حاكميت (الحاكمية) ، تشريع، لزوم، تسليم، أمر. كلها عربية وهكذا نجد في سطر ونصف السطر 15 كلمة عربية.
* أصل 3: دولت جمهوری إسلامي إيران موظف است برای نیل به اهداف مذکور در اصل دوم، همه امکانات خود را برای امور زیر به کار برد:
لمة أصل 3 ، ثم دولت، جمهوري، إسلامي، موظف، نيل، أداف، مذكور، إمكانات، أمور. كلها كلمات عربية.
التوجه لأسلمة المجتمع يثير حفيظة الفرس في إيران على وجه الخصوص، إذا يرون فيه سياسة تعريب تتبعها حكومة السادة وهم يقولون علنا في كل مكان "إذا كان الخميني، والخامنئي وخاتمي من السادة، فهم هاشميو النسب، والهاشميون عرب قريشيون لا شك فيهم، وهكذا فحكامنا هم من العرب الساعين إلى تعريب إيران الفارسية"
* أصل 4: کلیه قوانین و مقررات مدنی، جزایی، مالی، اقتصادی، اداری، فرهنگی، نظامی، سیاسی و غیر اینها باید بر اساس موازین إسلامي باشد.
كلمة أصل 4 عربية ، ثم كليه (كل) ، قوانين، مقررات، مدني، جزايي (جزائي)، مالي، اقتصادي، إداري، نظامي، سياسي، أساس، موازين، إسلامي. هذه كلها كلمات عربية في سطر ونصف من المدخل إلى هذه الأصل.
* أصل 5: در زمان غیبت حضرت ولی عصر (عجل الله تعالی فرجه)، در جمهوری إسلامي إيران ولایت امر وامامت امت بر عهده فقیه عادل و با تقوی، آگاه به زمان، شجاع، مدیر ومدبر است که طبق اصل یکصد وهفتم عهدهدار آن میگردد.
كلمة أصل 5 مرة أخرى، ثم، زمان، غيبت (غيبة) ولي، عصر، عجل، الله، تعالى، فرجه، جمهوري، إسلامي، ولاية، امر، امامت (امامة)، امت (أمة) ، فقيه، عادل، تقوى، زمان، شجاع، مدير، مدبر، طبق أصل. كلها كلمات عربية.
* أصل 6: در جمهوری إسلامي إيران امور کشور باید به اتکاء آراء عمومی اداره شود، از راه انتخابات: انتخاب رییس جمهور، نمایندگان مجلس شورای إسلامي، اعضای شوراها و نظایر اینها، یا از راه همهپرسی در مواردی که در اصول دیگر این قانون معین میگردد.
أصل 6 مرة أخرى، ثم جمهوري، إسلامي، أمور، اتكاء، آراء، عمومي، إداره (إدارة) ، انتخابات، انتخاب، رئيس، جمهور (الجمهورية)، مجلس، شوراي (شورى)، إسلامي، اعضاي (أعضاء)، مواردي( موارد)، أصول، قانون، معيّن.
هذه مقدمات 6 أصول فقط من الدستور الإيراني الذي يحتوي على 177 أصلا، فتخيّل إلى أيّ حد اجتاحت اللغة العربية (بمصطلحها القرآني الإسلامي) لغة أرض فارس ونحّتها لتحتل مكانها بلا حرب ولا صواريخ ولا غزوات عسكرية.
إذا تأملنا أثر سياسة الأسلمة التي انتهجتها وماتزال الجمهورية الإسلامية في إيران سنجد في المحصلة انحسارا حادا للحضارة الفارسية ولغتها وحتى مواريثها، ففي إيران الإسلامية لا يحبذ المسؤولون إحياء عيد نوروز وهو الأساس الذي تحوم حوله حضارة فارس ومن يحيط بها (طاجيكستان، أذربيجان، كردستان بأقسامها الأربعة، أفغانستان، أجزاء من باكستان وغيرها)، ويحاولون جاهدين تحوليه إلى عيد الربيع (بهار) وإضفاء ملامح إسلامية عليه تقصي رمزيته وطقوسه الزرادشتية (النار، والقفز فوق النار، إحياء رسم جهارشنبه سوري، وسفرة هفت سين التي أضاف إليها إسلاميو إيران القرآن، الاحتفال لمدة 13 يوما بموجب الطقوس الزرادشتية).
ويسعى الإسلاميون في إيران إلى نشر الاحتفال بمواليد الأئمة والمعصومين (من آل الرسول) لتحل محل أيام نوروز الثلاثة عشر، وعيد الشتاء – شب يلدا، وتحويل سال، وجلّه تموز، ومهركان، كما يسعون جاهدين إلى تغيير التقويم الفارسي، إلى تقويمهم الجديد الذي يسمونه (هجري شمسي)، محاولين محو كل الكلمات الفارسية التي تثبّت هذا التقويم.
أبرز المحاولات في هذه العجالة هي استخدام كلمة “جمعة” التي وضعها الإسلاميون بديلا لكلمة ”آدينة” الفارسية المرتبطة بطقوس العبادة الزرادشتية وتقويمها الزرادشتي الشمسي الناري الذي أسماه الشاه بالتقويم البهلوي.
هذا التوجه لأسلمة المجتمع يثير حفيظة الفرس في إيران على وجه الخصوص، إذا يرون فيه سياسة تعريب تتبعها حكومة السادة وهم يقولون علنا في كل مكان “إذا كان الخميني، والخامنئي وخاتمي من السادة، فهم هاشميو النسب، والهاشميون عرب قريشيون لا شك فيهم، وهكذا فحكامنا هم من العرب الساعين إلى تعريب إيران الفارسية”. كما يثير هذا التوجه حفيظة المسلمين من غير الشيعة، وحفيظة غير المسلمين الرافضين لأن تكون إيران إسلامية، وحفيظة العلمانيين الرافضين للنظام الديني عموما.
أنهي موضوعي في هذه النقطة، فهو في الحقيقة نواة لبحث جيوسياسي ديمغرافي وبايلنغوست طويل ومفصّل لا أملك ما يكفي من الوقت والمال للمضي فيه، لذا أنشر هذه العجالة هنا، لعلّ المعنيين يرون فداحة أخطائهم (الجيوسياسية، واللغوية، والحضارية) التي تحدد علاقاتهم بإيران وقد اختارت لها نخبتها السياسية الحاكمة لقب “جمهورية إيران الإسلامية”.