العرب - تعيش المجتمعات العربية الحديثة في المرحلة الثالثة من المسار التاريخي لتبلورها السياسي والاجتماعي. فبعد مرحلة الاستعمار جاءت مرحلة “الدول الوطنية” أو “الدولة – الأمة” بنخب سلطوية ثورية وعسكرية، مع سرديات قومية وأممية وأحلام أيديولوجية. لكن فشل هذه النماذج بعد عقود أدى إلى ظاهرة الاحتجاجات الاجتماعية – السياسية التي انطلقت في تونس ومن ثم سرت شرارتها في العالم العربي وما ارتبط بها من انهيار فكرة “السلطة – الإله” والنظام الذي لا يُقهَر.
وبعد النموذجين الاستعماري وشبه الدولة، نجد اليوم أنفسنا في لحظة “ما بعد الدولة الوطنية” حيث انعدام الاستقرار والتفسخ الاجتماعي وحروب الهويات. وحسب باحث مغربي، كان يُرجى من “الربيع العربي” أن يكون صفحة جديدة في تاريخ هذه الشعوب مفتوحة على الكثير من الاحتمالات المتفائلة بغد عربي أفضل.
ويشير الباحث عبدالعالي حور في ورقته الموسومة “مداخل وأسس الاستقرار في الوطن العربي” إلى ما تعانيه المجتمعات العربية الآن من عدم الاستقرار لأسباب تتعلق بطبيعة تركيب السلطات السياسية، فضلا عن الانقسامات التي تعانيها، وعدم الوفاق الجماعي على وجودها الشرعي وكذلك ضعف بنيتها السياسية والهيكلية. مؤكدا أن الخروج من هذا المأزق يتطلب استراتيجية متكاملة تتضمن تفعيل الدور الإدماجي والتنشيطي للدولة، وتوثيق الترابط بين الأمن والديمقراطية والتنمية، وترسيخ قيم المواطنة الكاملة، وإحداث النهضة الثقافية والازدهار الاجتماعي، وتنضيج البدائل الاقتصادية.
وجاء في الورقة البحثية أن عدم الاستقرار الذي تعانيه أغلب المجتمعات العربية في الوقت الحاضر له انعكاساته على كل الصعد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، والتي غالبا ما تكون أسبابها الأساسية عدم فعالية السلطات السياسية وانحيازها لفئة أو طائفة، حيث لم تعكس إرادة الجماهير الشعبية في قراراتها السياسية، ولم تعمل على تحقيق حريتها وكرامتها الإنسانية.
ويؤكد الباحث أن المسار الذي اتخذته الثورة في بلدان مثل سوريا وليبيا واليمن، والوضع في العراق، يزيدان تعميق حالة عدم الاستقرار ويوفران بيئة مناسبة لتقوية الاتجاهات المناهضة لبناء دولة ديمقراطية. وبناء عليه يطرح الباحث سؤالا مركزيا هو: ما هي الأسس التي يمكن الانطلاق منها لتحقيق بداية تعرف المجتمعات السياسية، في كل مرحلة من مراحل تطورها، تغييرات في مقومات العلاقات السياسية المرتبطة بواقع التغيير الاقتصادي والاجتماعي، تؤدي بها إلى الانتقال من وضع إلى آخر.
ومن شأن هذا التغيير الذي يفرز الاختلال في علاقات التوازن بين مختلف العناصر أو الأجزاء المكونة للجسم السياسي، أن يُحدِث سلسلة من التأثيرات في صورة توترات خطيرة، قد تسفر عن ثورات أو انقلابات سياسية أو اجتماعية كبرى، إذا لم يكن مصحوبا بنقلة على طريق التطور السياسي الدائم والمستمر من خلال التطوير المستمر للقواعد القانونية الملائمة والمناسبة، والارتقاء بالتنظيمات والمؤسسات الأكثر فعالية، إلى مستوى يجعلها تستجيب لكل تغير عادي أو مفاجئ. ومن هذا الجانب يبدو الارتباط الوثيق بين الوظائف التقليدية أو القانونية للدولة، وبين وظيفتها التطويرية؛ فهذه الأخيرة تتمثل بسعي الدولة، ومن خلالها النظام السياسي، إلى القيام بمجهود سياسي – قانوني لتطوير وتكييف الأنظمة القانونية بشكل دائم، وفي طليعتها الوثيقة الدستورية، تطوير يجعل هذه الأنظمة القانونية قادرة على تحقيق التوازن، وعلى استيعاب الأوضاع الاجتماعية الجديدة وكل القوى السياسية الجديدة بشكل سلمي. وتشكل حلا لعدم المساواة في الحصول على الموارد، وعلى السلطة السياسية، وعلى التعليم، والصحة، والعدالة.
ويتوقع الباحث أن يؤدي عجز الإطار التنظيمي للدولة عن استيعاب هذه القوى السياسية الجديدة بأسلوب سلمي، إلى لجوء هذه الأخيرة إلى الوسائل العنيفة لفرض وجودها على الساحة السياسية، فتجتاح هذا الأخير الأزمات والاضطرابات والفوضى وعدم الاستقرار، وهو الوضع الذي تعيشه العديد من البلدان العربية.
ويلفت الباحث إلى أن أمثل النماذج السياسية من حيث أداء الدولة لوظيفتها التطويرية هي تلك التي تتميز بالمرونة وبالقدرة على الخروج من الصور الجامدة لتتحلى بالواقعية السياسية وتطبع بالمرونة اللازمة، فتسير في الطريق الطبيعي للتطور سيرا متزنا ينسجم مع درجة نضج المجتمع السياسي الذي تمثله.
وبالرجوع إلى العالم العربي، يربط الباحث الأزمات الحادة التي تعرضت – وتتعرض لها – الدول العربية بتفاعل وتطور عناصر الأنظمة القائمة فيها من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ذلك أن التطورات غير المتوازنة لمختلف العناصر المكونة للمجتمعات العربية لم يصاحبها تطور مقابل في المؤسسات الاجتماعية والأنظمة السياسية التي ظلت جامدة.
|
وبرأي الباحث، فقد أدى هذا الجمود إلى إحداث فجوة بين المجتمعات وبين الأنظمة التي لم تستطع استيعاب القوى السياسية الجديدة، سواء بالوسائل السلمية أو حتى بوسائل العنف، والتعبير عن التطورات الاجتماعية المستجدة. ومع اتساع هذه الهوة، تتولد الحاجة الماسة إلى إدخال تغيرات جذرية وفجائية على النظام والمؤسسات لجعلهما متوافقَين ومنسجمَين مع الأوضاع الاجتماعية الجديدة التي لا يمكن للبلدان العربية أن تتفادى حدوثها إلا بإقرار التوازن والاستقرار، والاعتماد في التطور السياسي على مبدأ مشروعية الحكم الديمقراطي، ورفع التناقض الحاصل بين التطور الاجتماعي وعدم مرونة بعض المؤسسات.
ويقدم الباحث مفهوما جديدا للمخاطر والتهديدات التي تحدق بكيان الدولة العربية لافتا إلى طبيعة “العدو” التي تغيَّرت من وحدة سياسية واضحة هي الدولة – الأمة التي تحتكر الوسائل الشرعية للقهر، على حسب تعبير عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر، إلى مجموعة من الفواعل قد تكون سياسية دولية أو سياسية خاصة أو حتى العاهات والأمراض المعدية أو الجريمة المنظمة. ففي فترة ما بعد الحرب الباردة، هنالك أخطار ذات طبيعة متغيرة؛ قد تذهب من الإيدز إلى التطرف الديني مرورا بالمخدرات وازدياد حرارة الأرض، والجريمة، والبطالة، والمافيا، والكوارث الطبيعية. فلم تعد التهديدات في مجملها خارجية، بل إن أكبر تهديد للدولة والمجتمع أصبح ينبع من الداخل.
وينادي الباحث بتغيير العقيدة الأمنية للأنظمة السياسية العربية، بمعنى حماية المجموعات والأفراد في مواجهة العنف الداخلي إلى جانب الدفاع عن الأقاليم والمجموعات ضد أي اعتداء خارجي؛ فالفرد، برأيه، وليس الدولة هو الذي يجب أن يكون المرجع للأمن. ويوضح الباحث أن السلطوية هي خاصية مشتركة لكل الدول والأنظمة التي تعرف أزمات سياسية خطيرة في الوطن العربي، فكل هذه الدول تعترف بالتعددية وحرية تأسيس الجمعيات ولكنها تحكم قبضتها عليها وتمعن في مراقبتها، وهو ما يحد من قدرتها على الحركة والعمل بطريقة مستقلة؛ فالنظام السلطوي معادٍ بطبيعته لكل استقلالية فردية أو جماعية، في حين أنها شرط لاحترام الحريات والحقوق الفردية والجماعية، وإقامة ديمقراطية حقيقية، ستعمل بدورها على القضاء على التطرف والعنف بصفة آلية. مضيفا أن المشكل الأساسي في البلدان العربية يتعلق بالأمن الإنساني قبل أن يكون أمنا سياسيا؛ أي بمفهومه العام كالعدالة الاجتماعية والأمن الغذائي والأمن الثقافي وهي التي تعتبر في الواقع اللبنات الأساسية لضمان الأمن السياسي الذي تطمح إليه شعوب المنطقة.
ووفق الباحث فإن الصلة بين التنمية والديمقراطية صلة بديهية، فهناك ارتباط بينهما لأن الديمقراطية تشكل الأساس طويل الأجل والوحيد لاحتواء المصالح المتنافسة العرقية والدينية والثقافية. وهما مترابطتان، كون الديمقراطية حقا أساسيا من حقوق الإنسان، والنهوض بهذا الحق في حد ذاته يعتبر إجراءً مهماً من إجراءات التنمية. ففي ظل الديمقراطية تكون حقوق الإنسان محترمة في الممارسة، وتشكل ضمانة للديمقراطية، لكن هذا الترابط سيتلاشى ما لم يتم الاهتمام بتحقيق التنمية الاقتصادية.
ويستشفُّ الباحث من دروس التنمية الفاشلة أن التنمية لا تأتي بالمساعدات الاقتصادية وحدها، لكنها كذلك مرتبطة بالتنظيم البنيوي للمجتمع. وفي هذا السياق تم الإقرار بأنه لا تنمية دون ديمقراطية ولا ديمقراطية دون احترام حقوق الإنسان، وأخيرا لا ديمقراطية دون تنمية.
ن المواطنة الحقة، حسب الباحث، لا تتحقق إلّا إذا علم المواطن حقوقه كاملة (مدنية وسياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية)، وعمل على ممارستها والسعي لتحقيقها وعدم التنازل عنها. وبهذا المعنى تكون المواطنة في نهاية المطاف انتماءً للوطن، ودرجة المواطنة مرتبطة بمدى الشعور بهذا الانتماء كونه هو الارتباط الوثيق بالوطن. وثمة علاقة عميقة وجوهرية، بين مفهوم المواطنة والأوضاع السياسية والاقتصادية والثقافية السائدة.
فالمواطنة، من وجهة نظر الباحث، كمبدأ ومرجعية دسـتورية وسياسية، لا تلغي عملية التدافع والتنافس في الفضاء الاجتماعي، بل تضبطها بضوابط الوطن ووحدته القائمة على احترام التنوع وليس على نفيه، والساعية إلى تمتين قاعدة الوحدة الوطنية، حتى يشعر الجميع بأن مستقبلهم مرهون بها، وأنها لا تشكل نفيا لخصوصياتهم، وإنما مجالا للتعبير عنها بوسائل منسجمة وواضحة.
ولتكريس مفهوم المواطنة على الصعيد الواقعي، يدعو الباحث إلى إنشاء “دولة الإنسان” التي تمارس الحياد الإيجابي تجاه قناعات ومعتقدات وأيديولوجيات مواطنيها. بمعنى ألا تمارس الإقصاء والتهميش والتمييز تجاه مواطن بسبب معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية. كما أنها لا تمنح الأفضلية لمواطن بفضل معتقداته أو أصوله القومية أو العرقية. فهي مؤسسة جامعة لكل المواطنين، وهي تمثل في الحصيلة الأخيرة مجموع إرادات المواطنين. ولقيامها لا بد من مقومات أساسية هي: المساواة بين المواطنين، وتمكين المرأة وضمان حقوقها، والمشاركة السياسية، ووجود مجتمع مدني فاعل من خارج أجهزة السلطة، وعدم إضفاء طابع القداسة على الحاكم.
يُفيد الباحث بأن المواطنة تبنى عن طريق بناء ديمقراطية حقيقية لا ترتبط بنظرة مقتصرة على الانتخابات وإنما الديمقراطية التي تعبر عن المشاركة السياسية والحوار وكذا تفاعل الجمهور، ويجب أن يكون الهدف الحاسم للنقاش العام في ممارسة الديمقراطية مرتبطا بفكرة مركزية وهي العدالة.
يقول المفكر مالك بن نبي “إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها”. ومن هذه النظرية يستنتج الباحث أن الأساس الأول لأي بناء حضاري هو التعليم الجيد والشامل، وأن عدم تحرك البلدان العربية في معظمها بالسرعة اللازمة لتحسين نوعية التعليم والارتقاء بما لديها من أصول معرفية وتحفيز الابتكار المحلي والانتقال إلى نماذج تنموية ترتكز على التقانة؛ أدى إلى عجزها عن توفير فرص عمل كافية أو مُرضية وبأجور مناسبة لملايين العرب وجلهم من الشباب.
وفي هذا السياق يستدعي الباحث مسألة الهوية الضائعة والتصالح مع الذات، وهو ما لن يتحقق برأيه دون إصلاح حقيقي للتعليم، وخاصة التعليم العالي الذي لا يزال معدل القيد به دون المعدل العالمي والذي يعتبر أحد المؤشرات الدالة على تقدم الدول نحو إرساء مجتمع المعرفة كونه المدخل الرئيسي لأي نهضة أو تغيير؛ تعليم متاح أمام جميع أبناء الوطن يضمن لهم فرصا متساوية، وبمستوى رفيع قادر على خوض غمار المنافسة في مجتمع المعرفة، تعليم يربي على الاستقلالية والحرية في الاختيار والاحترام وبذل الجهد في الفهم، والابتكار بدل الحفظ والتلقين، وتنمية شخصية الإنسان العربي، وهو ما من شأنه إحداث ثورة ثقافية حقيقية واجتثاث الأمية والقطيعة مع الموروث الثقافي الاستعماري السلبي والتصالح مع التراث والانفتاح على الحداثة الإنسانية في جوانبها العلمية والتكنولوجية والفكرية والأدبية الراقية وليست تلك الحداثة الوضعية الممسوخة.
ويطالب الباحث بأن تنصب الجهود على ميدان التعليم وأن تستثمر فيه الأموال. فرأس المال البشري هو الثروة التي يمكن أن تنافس بها البلدان العربية في عالم اليوم خاصة أن معظم سكانها شباب وهو ما يشكل تحديا حقيقيا وفرصة في الآن نفسه.
وتؤشر الدراسة على أزمة “ازدواجية التعليم” في معظم البلدان العربية، فهناك تعليم عمومي يُعاني عدة اختلالات وضعفا في المستوى والمضمون والمنهاج يؤدي إلى تفريخ العطالة، وهناك تعليم خاص غير متاح للجميع يتميّز بمستوى مرتفع يسمح لخريجيه بالحصول على أحسن المناصب، مما يخلق شرخا اجتماعيا ويؤدي إلى إعادة إنتاج البنى الاجتماعية نفسها.
ويحذر الباحث من تحديات كبيرة ستواجهها البلدان العربية في المستقبل، من أهمها ضرورة الحد من الفقر، وتوفير فرص العمل لاستيعاب الأعداد المتزايدة من العاطلين عن العمل، وضرورة تحقيق قفزة نوعية في مجال التكنولوجيا، فضلا عن محاولة استغلال الموارد المتاحة بالطرق المثلى. وتتطلب تلك التحديات مواصلة الجهود التنموية، من خلال توفير بيئة اقتصادية واجتماعية ملائمة في تحقيق استدامة النمو ورفع مستوى المعيشة.
وإذ يدعو الباحث إلى مغادرة المراوحة في المكان عند مفترق طرق بين التقدم والرغبة في التغيير وبين التنمية المتعثرة والأزمات، فإنه ينفي إمكانية أن تنهض أي ديمقراطية دون تنمية اقتصادية وعدالة اجتماعية وتوزيع عادل للثروات، ومنع الاستغلال الرأسمالي، إذ ليس المهم امتلاك ثروات ولكن المهم هو التوزيع العادل لما هو موجود وتحقيق الاستقلال الاقتصادي. وهذا لن يتحقق، في اعتقاده، إلّا بتبني نموذج “الدولة الإنمائية” التي تتحمل مسؤوليتها في النهوض بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، منتقدا سياسة “الخوصصة” وبرامج التكييف الهيكلي التي نهجتها بعض البلدان العربية وما رافقها من اختلال وفساد فأبانت عن فشلها في تحقيق الأهداف التي رُسمت لها.