الحياة - كما هو متوقع، انفض السامر في جنيف قبل أن يبدأ. لا مفاوضات ولا محادثات ولا حتى نية معقودة بصدق من الطرفين للجلوس على طاولة نقاش واحدة. النظام السوري يوسع المعارضة والشعب السوري والمجتمع الدولي الشتائم، خلف العملاق الروسي. ويرمي بين الحين والآخر حجراً صغيراً على خصومه ثم يعود ليختفي في ظل فلاديمير بوتين. وفي كلتا الحالين، وفي الحال الثالثة كذلك التي يصمت فيها تاركاً المجال لوزير خارجية روسيا سيرغي لافروف أو المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف للحديث نيابة عن انكساره وهامشيته، هو غير جاد في السعي نحو التفاوض ما دام الراعي الروسي لا يرى مصلحة في ذلك في الفترة الحالية في ظل الانتصارات التي تتحقق على أرض المعركة.
والمعارضة لها أكثر من وجه، وجه سعيد بتعثر المفاوضات لأنه محسوب في الأصل على النظام. ووجه سعيد كذلك بتعثرها لأنه معارض للحكومة ومعارض للمعارضة التي ذهبت إلى جنيف. ووجه ثالث لا يرى جدوى من الجلوس مع النظام على طاولة واحدة في مدينة تبعد آلاف الأميال عن دمشق، فيما آلة القتل الروسية تعمل بطاقتها القصوى في قتل الشعب السوري وتشريده.
لا النظام أولاً، ولا المعارضة ثانياً بأطيافها كافة، ولا أنا ثالثاً، نرى أن هذا هو الوقت المناسب للمفاوضات!
ما زال الوقت باكراً جداً للأطراف السورية المتشابكة للجلوس على طاولة نقاش واحدة بحثاً عن حل. مثل هذا النوع من الأزمات لا يُحل بالتفاوض إلا بعد سنين طويلة، شرط استمرار السيناريو الحالي ذاته.
أولاً، النظام يقول إنه يريد المفاوضات ليثبت فقط للمجتمع الدولي أنه هو الطرف المتحضر المتمدن المتفهم، الذي يحاور معارضته من دون شروط. ويريد أيضاً أن يرسل رسالة غير مباشرة إلى جماعات الضغط المدنية في الغرب، أن من يحمل السلاح ضده ليس هو الشعب السوري وإنما المعارضة! ولتقارن أيها الغرب بين المعارضة السلمية المدنية في برلمانات دولك مع المعارضة البربرية الهمجية المسلحة في سورية، والمدعومة من السعودية وقطر وتركيا.
أيضاً يريد أن يقول: ها أنذا أيها الغرب (الذي تشبهني) ألبس البذلة الإفرنجية مثلما تلبس، وأتعطر بعطورك نفسها، وأتعاطى القيم والأخلاقيات نفسها التي تتعاطاها، وأجلس إلى جانبك في انتظار المعارضة (التي لا تجيء) بسبب انقسامها على نفسها وبطلان مشروعيتها وعدم صدقيتها في تمثيل الشعب السوري.
وثانياً، المعارضة الحقيقية (أو الثوار بكل بساطة) لم تذهب إلى جنيف إلا مدفوعة دفعاً، مجاملة لحلفائها الذين يدعمونها. المعارضة هناك اليوم لأنها تخاف فقط من أن ينقلب عليها المجتمع الدولي ويخرجها من حقيقتها الثورية ويدخلها في تصنيف الجماعات المتمردة الفاقدة للشرعية غير المؤمنة بحل سوى العنف! وإلا فهي لا ترى في نظام دمشق إلا سلطة فاقدة للشرعية لا يليق بممثلي الشعب أن يلتقوها في أي مكان وزمان. ورقة المعارضة تخلو من مفردات الحوار مع القاتل، وكل الذي تريده هو اجتماع دولي يفرض على النظام جدولاً زمنياً لتسليم السلطة لحكومة انتقالية تأخذ الحكم من يد بشار الأسد، وتسلمه للشعب السوري عبر انتخابات نزيهة مشمولة برعاية دولية. لا مفاوضات ولا تنازلات ولا نقاشات ضيقة في تطورات ميدانية متغيرة. الأمر كله متعلق بجلسة دولية ينتج منها حكم جديد وسورية جديدة. هكذا بكل بساطة يجدّل الثوار أحلامهم، وتنقلها المعارضة إلى الواقع!
أما ثالثاً، ففي تقديري أن أية مفاوضات من هذا النوع في ظروف كهذه، محكوم عليها بالفشل حتى لو توافرت لها كل النيات الصادقة في العالم، فالنظام لا يزال قوياً بفضل التدخل الروسي، والثوار لا يزالون مدفوعين بأحلام الحرية الطازجة نوعاً ما، وما زالوا غير بعيدين عن شرارة الثورة الأولى، وبالتالي فالملل من الحرب والرغبة في الاستقرار غير المشروط ما زالتا بعيدتين بعض الشيء عن مخيلة الطرفين. المفاوضات في مثل هذه السيناريوات قد تكون الحل بعد سنوات طويلة، حينما تطل اللاجدوى والعبثية على ميادين الاشتباكات. هي، بالتأكيد، ليست الطريق المناسبة للحل في الوقت الحالي.
قد يكون الحل في «جنيف ١٤» أو «١٥»، لكنه بالتأكيد لن يكون في «جنيف ٤» أو «٥ أو ٦»! وإلى ذلك الحين على الشعب السوري المغلوب أن ينتظر موعد المفاوضات النهائية وهو يفقد يوماً بعد يوم جزءاً من جسده وذاكرته وأمانيه، أو أن يتحرك أصدقاء الشعب السوري ويغيروا استراتيجية الحل التي تبنّوها سنوات.