الرياض - لروسيا تأثير وإرث كبيران في أوروبا، وتاريخ حافل بالصراعات، والتدافع بينها وبين الممالك والامبراطوريات التي نشأت هناك، وفي كل حقبة تاريخية من تاريخ هذا البلد يكون جزءٌ أساسي مما تورثه الحقبة الروسية السابقة للاّحقة الصراع على النفوذ حيث تحتدم مقارعة الخصوم الذين لطالما انتهت معاركهم مع هذا العملاق إلى التعادل أكثر منها إلى انتصار أحدهما، حتى عندما انهار الاتحاد السوفياتي الذي كانت روسيا قلبه ورئته كان الانهيار بفعل عوامل داخلية، ولم ينتج عن غزوة أو عمل حربي.
واللافت أن أحداً لم يتوقع انهيار هذا الاتحاد حتى إن الأميركيين لم تتنبأ أجهزتهم الاستخباراتية وعلى رأسها «الاستخبارات المركزية» بسقوط السوفيات، وإثر ذلك تم استجواب العناصر التابعة للجهاز الاستخباراتي، وكذلك المسؤولين هناك أمام لجنة برلمانية عن فشلهم في التنبؤ بانهيار هذا الكيان الكبير.
الحاصل اليوم في مشهد التجاذبات الروسية – الأوروبية ليس أمراً جديداً بل إنه استمرار لصراعات يمكن تأريخها إلى بدايات القرن الثالث عشر، فالتنافس على السيادة، والتوسع الجغرافي كانا في صلب الصراع مع روسيا التي اختارت أن تكون متفردة عن باقي أوروبا حتى في الكنيسة التي اتبعتها، إذ اختار «فلاديمير الأول» الكنيسة الارثوذكسية بديلاً للوثنية، حتى إذا تأملنا التاريخ السياسي لروسيا نجده أقرب إلى كونه خليطاً من «الأوتوقراطية» و»أوليغارشية» خلال فترتي الإمبراطورية – القيصرية وزمن الجمهورية الحديثة، ولعل ذلك يعود في أساسه إلى تجذر تلك العقيدة السياسية التي عبر عنها «نيقولا الأول» والذي تنقَل عنه مقولته في روسيا «أرثوذكسية وأوتوقراطية ووطنية».
اليوم يُلفت نظرنا تأثير الإرث الفكري السياسي الروسي المستمر في تبني ودعم أنظمة سياسية مشابهة له في العالم، والدفاع عن المناطق التي تتسيد فيها الكنيسة الأرثوذكسية، وهذا نابع من وجود هاجسٍ ثقافيٍ قديم حاضرٍ في أذهان الروس، لا يمكن تجاهله أو التقليل منه، لذا نجد ذلك يترجم بوضوح شراسةً تبديها روسيا في مواجهة الغرب الباحث عن تغيير في الايديولوجية المتبعة الدينية والسياسية، وإن كان ذلك ليس شعاراً يرفع، لكن حدوثه سيلقي لا شك بظلاله، في المدى الاستراتيجي، على الحديقة الخلفية لروسيا التي يتم إغراء دولها بقطعة حلوى مغلفة بعلم الاتحاد الأوروبي.
ولكي لا يقول التاريخ إنه في عهد فلاديمير الأول مؤسس روسيا القديمة توسعت البلاد داخل أوروبا، وفي عهد فلاديمير بوتين انكمشت روسيا، قام الأخير بقضم القرم ذات الرمزية الروسية الكبيرة، وتوسع ليقطع الطريق على الاتحاد الأوروبي في جورجيا، وليبلغ اليوم حضوره حدود «الناتو» أي في سورية، التي من خلالها يحصد بوتين مكاسبه في الإضرار بالاتحاد الأوروبي حيث ألمانيا وفرنسا وغيرهما دون أن يحرك دبابة واحدة صوب برلين أو باريس، بل من خلال إغراقها بالمشكلات حد التوتر لتغرق مع إنجازاتها التنموية والأمنية والعسكرية والسياسية، وتتغير بشكل هادئ لتصل إلى مرحلة لا تستطيع القيام فيها، ولا تقدر على تهديد موسكو، فمشكلات اللاجئين القادمين من سورية وتهديدات الإرهابيين الكارهين للحضارة الغربية، ستجعل أوروبا الحديثة تعاني لعقود وتعيش حالة ذعر وارتباك وهي التي تنظر لروسيا كدولة لا ترقى للحضارة الغربية.
واستمراراً للمعاناة الأوروبية بدأنا نرى كيف يعزز اليمين المتطرف من حضوره في فرنسا حتى حذر رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون من أن وصول هذا الحزب اليميني للحكم سيشعل حرباً أهلية في فرنسا، والأمر لايقتصر على باريس بل إن الأحزاب اليمينية في أوروبا استغلت فشل القيادات الحالية وضعفها في التعامل مع روسيا، وبفعل الخوف والقلق الثقافي والسياسي والاقتصادي اكتسبت شعبية جارفة، فيما اكتسبت موسكو حضوراً استثنائياً..