العرب - في خطوة مفاجأة ظهر رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي منتصف ليلة الثلاثاء التاسع من فبراير ليعد الشعب العراقي بإجراء تعديل وزاري وناشد البرلمان للموافقة على هذه الخطوة الإجرائية، أي إنه لم يتخذ تلك الخطوة، مع أن الدستور يمنحه تلك الصلاحية. ذكرتني هذه الإطلالة الحيدرية باستشارة وزير الإعلام الألماني جوزيف جوبلز لزعيمه هتلر خلال الحرب العالمية الثانية بأن يتوجه للشعب الألماني ويذيع عليهم قراراته المصيرية عند الليل حينما يعودون إلى بيوتهم بحالة من الإرهاق والتعب لكي يستقبلوا تلك القرارات بالموافقة فترة الإعياء. لكن حيدر العبادي قدّم خطابه هذا في الوقت الخطأ والمكان الخطأ. وقد كرر هذا العزم بعد ثلاثة أيام خلال مؤتمره الصحافي مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. مع أن أصول اللياقة السياسية تقول إن رئيس البلد أو المسؤول الأول فيه لا يتحدث في لقاء دولي ثنائي عن شأن محلي لم تتخذ فيه القرارات بعد.
وعود العبادي دون قرارات جريئة تؤكد ضعفه السياسي ووجود خلافات بين أطراف التكتل الشيعي حول مصير الوزراء الممثلين لهذا التكتل الحاكم الذين تدور حولهم الاتهامات بالفشل والفساد، والتنافس حول منصب رئاسة الوزراء، وسعي غرمائه، خاصة نوري المالكي، للإطاحة به تحت ذرائع “الفشل” وكأن إدارة ثماني سنوات من قبل المالكي كانت زاخرة بالإنجازات والزهور والرياحين، ملأت شوارع بغداد بدلا عن المزابل والمفخخات. يتبلور هذا المناخ الداخلي المشحون وسط قرار المرجعية الشيعية بالصمت السياسي الذي فسره البعض بالغضب المتكرر على الحكومة، فيما يفسره آخرون بأنه تمهيد مُدبّر لما سيحصل من تطورات سياسية داخل العراق، وصفت بالجريئة يشتغل عليها الأميركان، أمام تصلّب الإيرانيين بعدم التفريط بمجموعتهم الحاكمة رغم فشلهم وفسادهم.
يحاول العبادي الاستفادة إلى أبعد الحدود من مناخ التأييد الأميركي والدولي لحكومته في ما يسمى”الحرب على داعش” واستنفاد هذا الوقت المتبقي من احتلال هذا الوحش للعراق في استمراره بالحكم دون ملامسة أو التحرش بإمبراطورية الفساد وهو يعرف شخوصها وأبطالها. أبطالها وأغطيتهم زعامات من حزبه ومن الكتل الشيعية الأخرى التي لا يستطيع مواجهتها. ومأزق العبادي أنه يحاول استنساخ “الفشل” في ما يعزم عليه من تغيير أو إصلاح، وواقع الحال أنه يحاكي مأزقه ومأزق الكتلة الشيعية الحاكمة، وحتى المرجعية لا تستطيع تقديم حل إنقاذي للبلد خارج دائرة هذا التكتل السياسي الذي حكم البلد منذ عام 2003 ولحدّ اليوم. فالمشكلة ليست بتغيير الأشخاص المنتمين لهذا التكتل أو ذاك، فهذا هو برنامجهم المعزول عن آمال الناس ورغبتهم ومن الصعب على رئيس وزراء الخروج عن ضوابطه ومنهجه، ألم تكن الفرصة أمام العبادي تاريخية منذ توليه رئاسة الحكومة في أغسطس 2014 لكي يتحوّل فيها إلى زعيم وطني ينزع عباءة تلك الأحزاب ويرتدي عباءة الشعب، وكانت قوة الدفع والولاء هائلة لم يحصل عليها قائد سياسي في العراق من قبله، لكنه أخفق في عبور الجسر نحو فضاء الوطن وللأسف جلبت هذه التجربة المرّة السمعة السيئة لحكم الشيعة، رغم براءة هذه الطائفة الكريمة مما يحصل.
المشكلة تكمن في أن هذه الكتل الحاكمة تستثمر غطاء الدعمين الإيراني والأميركي، والمرجعية المذهبية في الهيمنة والاستمرار بالحكم، رغم تبرّؤها الأخير من توفير الغطاء للفشل والفساد. إن استمرار أيّ سلطة حكم بعيدة عن معاناة الناس لا تعني شيئا، وهي محكومة بعوامل فنيّة للتغيير الحقيقي، وتجارب الحكم في العراق دليل على ذلك. فكلما زادت المعاناة قصر عمر السلطة. لقد زاد وتعاظم الظلم الذي وقع على الطائفة العربية السنية وكبرت معاناتهم في التشريد والقتل والتغيير الديموغرافي الذي يحصل في مدنهم لأهداف إيرانية وبغطاء أنصاف السياسيين ممن يدعون تمثيلهم للسنة، وكذلك المعاناة الاقتصادية لعرب العراق من الشيعة في لعبة دبرها المحتل الأميركي بموافقة إيران قائمة على المثلث الطائفي المشؤوم. لا أحد يتوقع استمرار السلطة لو أُعلن عن “انفراد” التكتل الشيعي بحكم البلاد لوحده، رغم أنه هو الحاكم الفعلي الحقيقي، في ظل الاستقلال “النسبي” للأكراد في إقليمهم، والذين حدّدوا علاقتهم بالمركز في التوافق على شراكة الثروة فقط.
ما يمنح أحزاب الإسلام الشيعي إمكانيات الاستمرار بالحكم هو الزعامات السنية المتضامنة معهم والمتورطة بالفساد ونهب المال العام، وبازدواجية المواقف المفضوحة: يتحدثون مع الأميركان عن معاناة العرب السنة ويذهبون إلى السعودية والإمارات وقطر يبكون بذات الشعارات ويقبضون الثمن الذي يذهب إلى جيوبهم، ويأتون إلى القيادات الشيعية في بغداد وبعضهم يحجّ إلى طهران، يقدّمون الولاء السياسي، وهذه اللعبة المزدوجة تبدو في نهاياتها. لقد فضحهم أبناء العرب السنة في مواطن الهجرة والنزوح خصوصا بعد احتلال داعش لأراضيهم في المحافظات الست. لكنهم يعاندون ويكابرون ليقطعوا الطريق بالمال الحرام لعدم ظهور قيادات عربية سنية “لا طائفية” تأخذ فرصتها السياسية خارج اللعبة الطائفية.
لقد وصل التكتل الشيعي إلى طريق مسدود، ولعبة إصلاحات العبادي إعلامية فقط، والحل الإنقاذي الجذري الحقيقي لا يحققه المتورطون في الفشل والفساد، فهؤلاء بعد نهبهم لثروات العراق، سواء كانوا من الشيعة أو السنة حسب نسبة ودرجة سرقاتهم، يسعون بجميع الوسائل إلى التمسك بالسلطة والهيمنة الحزبية على أمور البلاد لأن التغيير السياسي الجذري الحقيقي المطلوب سيقود إلى تحقيق خطوتين جوهريتين هما: إعادة الأموال المنهوبة، وإقصاء الأحزاب التي شاركت في تخريب العراق ونهب ثرواته وإبعادها عن العمل السياسي بقوانين وإجراءات حاسمة، وهذا الأمر تعرفه القيادات الطائفية السنية والشيعية.
أحزاب التكتل الشيعي رغم ضخامة المليارات المنهوبة ما زالت تعتقد أنها في أمان وأن الدعمين الأميركي والإيراني لم يتأثرا لحدّ اللحظة، ولعل غطاء داعش يساعدها حاليا، ولكن ماذا بعد هزيمته في العراق؟ ستكون الساحة مفتوحة والمعركة الحقيقية بينها وبين شعب العراق، إلى جانب التدابير المغشوشة لأنصاف السياسيين في اللهاث وراء عرب الخليج وتركيا لإطلاق مشاريع فاشلة “كالدولة السنية” ولعل المتحكمين بالسلطة لا يكترثون في الأيام المقبلة، وقد يعرضون إذا ما حوصروا “الانتخابات المبكرة”، وهم المتمرسون على ألاعيبها لثلاث دورات انتخابية سابقة.
السؤال المهم: ما هي خيارات الأميركان في العراق؟ هل سيقدمون على عملية استئصالية لشجرة الفشل والفساد، ويكفّرون عن خطيئتهم تجاه شعب العراق؟ نقترح عليهم إن كانوا صادقين أحد السيناريوهين التاليين: الأول: إجراء تغييرات جوهرية بإقصاء قسري لجميع القيادات السياسية (الشيعية والسنية) وإبعادها عن المشهد السياسي، وإحلال وجوه جديدة (سنية وشيعية) بديلة. وهذا قد لا يزعج مرجعية النجف، لكنه حل لا يستأصل وينهي سرطان الطائفية، وإنما يستبدل وجوهها ويخفف من آثارها التدميرية.
الثاني: الذهاب إلى انتخابات مبكرة بعد اتخاذ حزمة إجراءات وتعديلات دستورية، وقيام هيئة انتقالية وطنية لهذه المهمة تأتي عبر مؤتمر وطني عام، لا تقوم على التوزيع الطائفي، وإنما على التوزيع السياسي، وتجرى الانتخابات بإشراف دولي مباشر لا علاقة للأحزاب القائمة به، بعد سن قانون جديد للأحزاب يضيّق الخناق على الأحزاب الدينية، ويحل أزمة العراق.