العرب - لبنان غارق في أزمته السياسية. أزمة تنعكس على مختلف قطاعات الدولة، أزمة اقتصادية وعجز مالي متماد، ومزيد من الاهتراء على مستوى إدارات الدولة التي فقدت قدرتها على توفير الحدود الدنيا من الخدمات للمواطنين، بحيث عجزت الحكومة اللبنانية عن معالجة أزمة النفايات المتفاقمة إلا بالترحيل إلى خارج لبنان وبكلفة تتجاوز المليون دولار في اليوم.
العجز عن انتخاب رئيس الجمهورية منذ عام وتسعة أشهر، ليس وليد الأزمة بقدر ما هو مولّد الأزمات الآنفة الذكر، فمهما قيل عن صلاحيات رئيس البلاد الدستورية، فإن الثابت أن الفراغ في موقع الرئاسة الأولى، وفر الظروف المناسبة لإطلاق حزب الله العنان لشهوة تجاوز ما تبقى من شروط الدولة مستفيدا من تفوقه العسكري وسطوته على مفاصل الدولة الأمنية والعسكرية، مقدما بذلك الشرط الأمني والعسكري على شرط الحياة السياسية ومرجعية الدستور والقانون.
على هذا المنوال الذي يجعل من حزب الله طرفا لبنانيا قادرا على القتال على امتداد المنطقة العربية من دون مساءلة ومن دون قدرة على لجمه بقواعد الدستور والقانون، بدت الحياة الدستورية والسياسية، أسيرة نظام مصالح حزب الله وشروط المعادلة الإيرانية الإقليمية التي تقوم، في جوهرها، على تعطيل الدول والسيطرة عليها من الداخل، والتحكم بمفاصلها من دون تحمل أعباء المسؤولية حيال المجتمع الدولي أو الشعوب التي أمكن تعطيلها بإشعال فتيل الفتن في داخلها وتعطيل عناصر وحدتها الوطنية.
لكن ثمة أعباء مالية واقتصادية تثقل على الدولة، بدأت تخلق مناخا لبنانيا من محاولة تلمس نظام المصالح الوطنية، بعدما لمس الكثير من اللبنانيين مخاطر العقوبات المالية والقيود الأميركية المشددة على النظام المصرفي اللبناني، وبعدما برزت مواقف سلبية من أكثر من دولة خليجية ضد لبنان، بسبب مواقف لبنان التي لم تنحز إلى مصالح لبنان العربية حين نأى بنفسه عن تأييد القرارات التي صدرت عن مؤتمر وزراء الخارجية العرب والمؤتمر الإسلامي بشأن العدوان على السفارة السعودية في طهران.
ن هنا تكمن أهمية عودة الرئيس سعد الحريري إلى بيروت، في الذكرى الحادية عشرة لاغتيال الشهيد رفيق الحريري، أهمية هذه العودة بسبب تأثيرها على الحياة السياسية والدستورية المعطلة بمنع انتخاب رئيس للبلاد بحجج واهية. إذ ليس خافيا أن الحريري الابن، الذي غادر لبنان طوعا منذ نحو خمس سنوات، كان تعرض لحملة سياسية توجت حينها بإقالة حكومته والإتيان بالرئيس نجيب ميقاتي، في عملية ظاهرها دستوري لكنها انطوت على تهديدات طالت أكثر من طرف لتغطية هذا الانقلاب على اتفاق الدوحة، وعلى أصول العملية الديمقراطية. تلك التي كان حزب الله، بسلاحه ونفوذه العسكري، قادرا على أن يديرها بحرفة عالية، لكن لم تكف لإخفاء ارتكابه السياسي بالاستقواء بسلاحه.
خمس سنوات مرت على غياب الحريري الطوعي، أو تغييبه الضمني، عن لبنان. لكن ذلك لا يعني أن تياره السياسي كان غائبا أو مغيبا، بل أثبتت الوقائع السياسية أن تيار المستقبل، رغم العثرات التي واجهت مسيرته في السنوات الأخيرة، بقي التيار السياسي الأقوى على الساحة اللبنانية والأكثر تمددا في البيئات اللبنانية المتنوعة. هو الأقوى لبنانيا، لكونه تيارا سياسيا مدنيا لا يتوسل السلاح لتعزيز نفوذه كما هو حال حزب الله، ولا الوقوع في إغواء الصراع المذهبي. ولعل وسطيته واعتداله السياسي جعلاه لقمة سائغة لحظة جموح السلاح، لكنهما شكلا له حصانة لبنانية جعلت من تيار المستقبل طرفا لا غنى عنه حين التفكير في إعادة ترميم الدولة واستنهاض الوحدة الوطنية في مقابل اكتساح المشاريع الإقليمية ومغامراتها المنطقة.
عودة سعد الحريري إلى لبنان جاءت لتلبي مطلبا لبنانيا، وليس حزبيا. ذلك أن الخيار الذي أخرج الحريري من رئاسة الحكومة ومن لبنان، بدا أنه عاجز عن تقديم البديل القابل للحياة. السنوات الماضية كشفت، بما لا يدع مجالا للشك، أن حزب الله لا يمتلك سوى خيار الحرب واستمرارها سواء باسم المقاومة أو الحرب في سوريا، أو القتال في العراق واليمن. وهي المهنة الوحيدة التي يتقنها. أما وظيفة بناء الدول ورسم سياسات اقتصادية وتنموية، والانخراط في مشروع دولة ذات سيادة، فهي مهمات من طبيعة مختلفة عنه، قبل أن نجزم إذا كان يطمح إلى بناء دولة أو لا يريد. لكن للمراقب أن يلاحظ كيف أن نظام مصالح حزب الله هو نظام مصالح إقليمي بالدرجة الأولى والثانية والثالثة… أما نظام مصالحه الوطني فبقي هامشيا منذ نشأة حزب الله حتى اليوم.
هنا المقارنة مع حزب الله لا تنطلق من تقييم أخلاقي أو وجداني أو أيديولوجي، بل من خلال المعطى السياسي والوطني. إذ يمكن ملاحظة أن هناك علاقة جدلية بين حزب الله ودولة لبنان. فكلما زادت قوة حزب الله ونفوذه، ترافق ذلك مع ضعف الدولة اللبنانية أكثر، وإن كشف ذلك عن شيء فهو يكشف عن أنه كلما تعاظم نظام مصالح حزب الله الخاص ودوره، برز هذا التناقض واتسعت الهوة بين وجوده ووجود الدولة بمعناها الحقيقي والفعلي.
سعد الحريري، في عودته إلى لبنان ومن خلال خطابه في ذكرى الـ14 من فبراير، كان بعيدا عن التجييش، لم يظهر على أنه زعيم طائفي، مهجوس بمخاطبة الغرائز والعواطف، ولم يظهر أيّ ميل للقول إن ما يجري في سوريا أو المنطقة هو ما يقرر مصير لبنان. بل ذهب إلى استعراض نظام المصالح الوطني اللبناني، ومن خلال تثبيت هذا النظام حدد مواقفه ووجه رسائله إلى العقل وإلى وجدان الوحدة الوطنية اللبنانية. قال، ببساطة، إنه يريد رئيس جمهورية وإنه ملتزم بالمعايير الديمقراطية وبما اختارته البطريركية المارونية. وهو ذهب إلى تأييد أحد مرشحي خصومه. كل ذلك بهدف عودة دورة المؤسسات الدستورية وانتخاب رئيس للبلاد. ووضع مقارنة بسيطة وعميقة في هذا الصدد، إذ قال إن الطرف الآخر ليس مهتما، بعد 21 شهرا على الفراغ الرئاسي، بملء هذا الفراغ، ويمكن أن يبقى سنة أو سنتين من دون رئيس، فيما أوضاع البلد على كل المستويات تشهد تراجعا وانهيارا منذ نهاية عهد الرئيس السابق ميشال سليمان.
عودة الرئيس الحريري إلى بيروت لم تتضح إن كانت آنية أو دائمة، لكن الثابت أن غياب الحريري الطوعي ظاهرا والقسري فعليا منذ خمس سنوات، وفر فرصا إضافية لفرض حزب الله قواعد اللعبة السياسية في لبنان على حساب الدولة وبشروط الميليشيا. سعد الحريري، إلى حد بعيد، ينتمي إلى مدرسة رفيق الحريري النموذج الذي بات مطلبا حيويا في إعادة رسم الأولويات على أساس إعادة الإعمار والتنمية، واستقطاب المستثمرين وتثبيت السلم. اللبنانيون اليوم يكتشفون أن ما يبقى هو ما يفيد الناس ويحصنهم في مواجهة الحرائق الإقليمية المحيطة، فالدمار العراقي والسوري جعل اللبنانيين أقل حماسة واندفاعا للتورط في حروب إقليمية، هنا فرصة من فرص البناء على هذه القاعدة، والرئيس الحريري هنا يمثل في خطابه الأخير نزوعا لبنانيا للسلم وإعادة البناء.