الرياض - ليست الحروب خياراً سهلاً، ولم تكن يوماً سوى المواجهة الأخيرة عندما تتضاءل الخيارات الأخرى.. فالحروب تحمل معها الجراح والفقد والآلام والمعاناة وأزمات شتى عانت منها البشرية ولا زالت. إلا أنها عندما تصبح الخيار الأخير والضروري، فلا بد من الاستعداد لها جيداً، وليس الاستعداد عسكرياً فقط، ولكنه يطال المجتمع برمته.. الذي يجب أن يكون على أهبة الاستعداد لمواجهة كلفة لابد من دفعها. وعندما تصبح الحرب الخيار الذي لابد منه لمواجهة خصوم وأعداء يستهدفون الدولة - الأرض والشعب والنظام - في وجودها ومقوماتها ومستقبلها.. فلا بد من تهيئة الداخل لاستحقاق دفع الخصم بكل ما يحمل ذلك من كلفة وبكل ما يترتب عليه من استحقاقات.
الاستعداد في الداخل لا يقل أهمية عن الاستعداد على جبهات المواجهة العسكرية. واستعداد الداخل أن يُهيأ المجتمع برمته لفهم وتقدير تلك الظروف، وكلفة المواجهة، والاستعداد ليكون ظهيراً لجنده وقواته إذا صارت في المواجهة على خط النار وهي تدفع عنه الشرور والأخطار. حالة التبلد والاسترخاء والهذيان الطافح غير المسؤول، مؤشر على حالة إنكار أو عدم إدراك حجم الأزمات، واحتمالات المخاطر الكبرى.. فالتحولات اليوم ليست عادية، والتطورات ليست مجرد محطات عابرة يمكن التعامل معها باسترخاء.
وعندما تنفجر المواجهات في ميادين الصراع والقتال، مع حالة اقتصاد يعاني من انخفاض كبير في أسعار سلعته الرئيسية التي تضمن موارده وتغطي احتياجاته.. فإن الوعي بالمخاطر القادمة يجب أن يكون على رأس الاهتمام.. ليس فقط من المسؤولين بل ومن قطاعات المجتمع التي عليها أن تدرك أن عليها أن تتخلى عن بعض الممارسات وأنماط الاستهلاك، وصراعات الداخل المتهافتة، وتعيد ترتيب أولوياتها على نحو يجعلها مساهماً جاداً في ظروف استثنائية عنوانها الصمود والاكتفاء بالممكن والضروري وهي تدرك حجم المخاطر التي تحيط بها.
إشعال الحرائق الصغيرة في الداخل تعليقاً على حادثة هنا وهناك.. والسجال المتوتر بين فرقاء الداخل الذين يستهويهم الغرق في قضايا جانبية وكأنهم يخوضون معاركهم الكبرى.. ليس له أن يحجب عن أعيننا المخاطر الأكبر المحدقة بنا، والتي تتطلب أن ننظر لها بعين الاهتمام ونرقى بها لمستوى المواجهة.
من يهدر وقته ووقت المجتمع في إنهاك متواصل حول تلك القضايا التي باتت مغرقة في تكرارها ونسقها وخصومها وأدواتها.. يعزز الهامش في ذهنية عامة، وهو يدرك أو لا يدرك انه لن يصنع أكثر من حرائق صغيرة ستكون سجالاً كلامياً يستنفد الجهد بلا طائل.
إن ما حدث من تطورات في المنطقة خلال الأعوام القليلة الماضية، وخاصة ما حدث ويحدث في اليمن والعراق وسورية ويهدد المنطقة برمتها، كشف عن سياسات غامضة وتحالفات يفضحها مشهد التطورات خلال الفترة الماضية، حتى بما كان يظن أنه تحالف قوى ومستقر. فها هي الإدارة الأميركية تدير ظهرها لحلفائها بل تبدو سياستها اليوم أشبه بلعبة خطيرة تمرر من خلالها احتجاجات لفظية لا تأثير لها في سياق الأحداث المشتعلة اليوم. ولذا تبدو لعبة التضليل الإعلامي قائمة على قدم وساق، فالتصريحات الإعلامية ليست سوى تضليل أكبر في سياق صناعة الاضطراب في المنطقة لأهداف أبعد تستهدف التقسيم والتفتيت والإنهاك الدائم.
ولذا حملت تلك التطورات هاجساً ووعياً بأن معادلة حماية الذات لن تكون سوى من خلال تحملها أعباء تلك الحماية عبر تقوية عناصر المواجهة وحشد الداخل وبناء منظومة دفاع تعتمد على الذات وبناء الثقة وتقوية نسيج الداخل لا العبث به أو شرخ مكوناته أو إضعاف قدرته على الاستجابة للتحديات الأكبر..
ما يعتقد أنه ضعف أحياناً في قدرات الدول والشعوب، ليس بالضرورة أن يكون ضعفاً حقيقياً لا فكاك منه. بل ربما في خضم الأزمات والمحن تبرز تلك المنح التي تعيد للذات إيمانها بقدراتها على مواجهة المخاطر التي تحيط بها.
تملك المملكة اليوم فرصة حقيقية لصناعة واقع مختلف، ولن يكون هذا سوى من خلال قدرتها على مواجهة المخاطر منفردة أو بالتحالف مع دول تملك ذات الرؤية أو المصلحة لمواجهة المخاطر المحدقة بالمنطقة.
أما دول الخليج العربية، فهي اليوم بين فكي كماشة القوة الإيرانية التي تعول على خروجها من أزمة النووي لفرض نفسها ومصالحها وخططها حتى بما يهدد هذه الدول في أمنها واستقرارها ومصالح شعوبها.. وبين تراخي قوى عظمى إذا لم يكن انسحابها التدريجي من مشهد الصراع، وهي تعول على التصالح مع القوة الإيرانية الطامحة لتصدير نموذجها وتنفيذ أجندتها في العراق وسورية. ويزيد المأزق دخول روسيا في مشهد الصراع وهي التي لا تعير أي قيمة إنسانية وأخلاقية في ساحات الحروب، فها هي تدمر وتسحق وتهجر وتقتل في سورية وسط صمت أميركي وغربي عاجز عن الفعل أو لا يريد أن يفعل شيئاً.. أو ترك انهاء هذا الأمر لروسيا مقراً بعجزه أو موافقته الصامتة ومزيدا من احتجاجاته الخافتة.
وكما نحن بحاجة لتطوير مشروع اقتصادي واجتماعي وسياسي.. نتمكن من خلاله مواجهة احتياجات الداخل وتطوراته وقضاياه ومستقبله.. فكذلك هناك حاجة ماسة لتطوير قدرات عسكرية متقدمة تجعل المملكة في مصاف الدول التي تضمن بقواتها تحقيق توازن عسكري يجعل الكلفة باهظة على الخصم فيما لو حاول أن يستقوي بالعدوان ضدها. كما نحن بحاجة لتنويع مصادر القوى البشرية لتدافع عن وطنها ومستقبلها.. ولذا فالخدمة العسكرية للشباب ستخدم هذا التوجه لتجعل من المملكة مجتمعاً قادراً على التلاحم مع قواته المسلحة بما يملك من مقومات التدريب والتهيئة عندما تكون ثمة حاجة تستدعي النفير العام للدفاع عن الوطن الذي لن يحميه سوى أبنائه، ولن يضحي من أجله سوى من قدت ملامحهم من طينه وترابه.
ولدعم هذا التوجه تبدو معالجة قضايا الداخل الإشكالية التي تهز صورته وتفرق جماعته أولوية أيضاً في مشروع المواجهة، ولن يكون ذلك إلا من خلال بناء منظومة قانونية وحقوقية دقيقة ومصانة ومحترمة وباتة، حتى لا يظل إشعال الحرائق أو الانشغال بإطفائها مسلسل هدر يستهلك وعي المجتمع ويصرفه عن إدراك المخاطر الكبرى التي تحدق به.
أما التلاحم الاجتماعي في مواجهة الأزمات فيجب ألا تهزه صور المترفين والغارقين في نعيم هذا البلد والذين لا يرونه سوى بقرة حلوب. فمثل هؤلاء إذا لم يستشعروا مسؤولياتهم تجاه وطنهم فيجب أن يكون هناك من الإجراءات ما يجعلهم يدركون أنهم يغامرون حتى بمستقبلهم إذا ما ظلوا يعيشون لذواتهم دون أدنى اعتبار لما حولهم.
الحصون المهددة من داخلها لن تقوى على الصمود في مواجهة الأعداء خارجها.. وشعار يد تحمل السلاح ويد تبني وتعمل ليس شعارا مستهلكاً وخاوياً.. وإن كان يعبر عن حقبة عربية استلهمت الشعارات وحدها.. بل بجب أن يكون شعار مرحلة لتعزيز الوعي العام بأهمية الحفاظ على مقومات وطن كمسؤولية مشتركة في الداخل بين أبنائه في الغنم والغرم.. كما هو بالامتثال لشرف الدفاع عنه في مواجهة ما يهدده من الخارج.