العرب - بعد فترة طويلة من تجاهل أو نسيان ملف التطبيع مع إسرائيل، فجأة عاد الحديث عن العلاقات معها ليحتل واجهة المشهد في مصر، وتتقاذفه قوى سياسية ونخب ثقافية، وحتى الرياضيون دخلوا على هذا الملف، وكان لهم نصيب منه، بعد أن اعتقدت بعض الدوائر أنه أصبح أمرا واقعا، وسط سلسلة كبيرة من التراجعات العربية والمصرية حدثت خلال السنوات الماضية.
الجدل تصاعد مع قيام توفيق عكاشة عضو البرلمان المصري وصاحب محطة الفراعين الفضائية وأحد أبرز مقدمي البرامج فيها، بعقد لقاء مثير في منزله مع حاييم كورين سفير إسرائيل بالقاهرة الأسبوع الماضي، وفي التوقيت نفسه تكشف أن اللاعب الزامبي إيمانويل مايكو المنتقل حديثا لنادي الزمالك، أحد أكبر الأندية في مصر، لعب في إسرائيل، ووكيله نير كارين الذي وقع العقد مع رئيس النادي وعضو البرلمان مرتضى منصور، يحمل الجنسية الإسرائيلية، وازداد الموقف إثارة عندما تبين أن مارتن يول المدرب الجديد للنادي الأهلي المنافس التقليدي للزمالك، يدين باليهودية.
من هنا طفا على السطح ملف التطبيع بين مصر وإسرائيل، والذي كان أحد المعوقات الرئيسية لتطوير العلاقة بين القاهرة وتل أبيب منذ توقيع اتفاقية السلام بينهما عام 1979، حيث كانت تسير العلاقات الرسمية في طريق هادئ، وفقا للوصف الذي كان يتردد “السلام البارد” كدليل على الفشل في الوصول بالعلاقات إلى قلب المجتمع المصري.
النخب المصرية، الصحافية والثقافية والنقابية، حافظت على رفض التعامل مع إسرائيل بصورة ودية، وصمم الجميع على رفض فكرة التطبيع، وفي الحالات القليلة التي جرى فيها اختراق هذا الحاجز، كان أصحابه يتعرضون لعقوبات وانتقادات كبيرة، وصل بعضها إلى حد المقاطعة أو اتخاذ مواقف سلبية لكل من يقدم على خطوة للتقارب مع أي جهة إسرائيلية.
وسط الصراعات الكثيرة والتردي الحاصل في المنطقة العربية، بدت مسألة العداء مع إسرائيل لدى قطاع كبير من المصريين غير مهمة ولا تحتل أولوية، وردد البعض مقولة “حواجز التطبيع سقطت”، وكان أول اختبار لهذه المقولة مؤخرا، حيث تم عرض أحد الكتب الإسرائيلية المترجمة في معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي عقد في يناير الماضي، وهو ما أوحى أن وزارة الثقافة المصرية راغبة في تجاوز الممانعات السابقة، لكن اعتراض العشرات من المثقفين، أكد أن هذا الملف لا يزال حيا في وجدانهم، وإذا كانت التطورات السياسية والأمنية الساخنة جعلته يتوارى نسبيا، فهو لم يختف تماما، وأن مسلماته السياسية لم تتغير بعد. المتابعة الدقيقة للخط البياني في العلاقات بين مصر وإسرائيل في العامين الماضيين، تقول إنها تطورت كثيرا، بشهادات مسؤولين في الحكومة الإسرائيلية، وأن أوجه التعاون المشترك تزايدت بشكل لافت على أصعدة مختلفة.
هناك تقديرات ذهبت إلى حد أن تقارب القاهرة مع تل أبيب قد يكون منقذا لها من بعض الأزمات، مثل الإرهاب في سيناء، وسد النهضة الإثيوبي، مقابل أن تدفع مصر ثمنا لذلك عبر المزيد من التطبيع السياسي والثقافي، والدخول في مشروعات مشتركة، كان من المحرم الاقتراب منها قبل ذلك، بمعنى إسقاط آخر وأهم ورقة في يد النظام المصري، يستطيع المناورة بها في مواجهة إسرائيل، التي ارتفعت معدلات التفاؤل لديها عقب انهماك النظام المصري في مشكلاته الداخلية، وزيادة رقعة التوترات الإقليمية، التي جنت من ورائها تل أبيب مكاسب استراتيجية كبيرة.
عندما توالت الضغوط الإسرائيلية لاستثمار حالة الرخاوة الظاهرة على السطح في مصر، بدت القاهرة في حاجة إلى الرد سريعا، وتوصيل رسالة مباشرة تشي بأن التطبيع الكامل ما زال من المحرمات، وأن الرأي العام لم ينس انتهاكات وتجاوزات إسرائيل، بغرض فرملة اندفاعات بعض المسؤولين نحو تطوير العلاقات بين الجانبين، وجاءت الضجة التى أثيرت بسبب لقاء عكاشة مع حاييم كورين، ووكيل اللاعبين الإسرائيلي، ومدرب الأهلي اليهودي، لتوقف زحف الحديث حول زيادة جرعات التطبيع، وتبين أن الترويج له يمكن أن يجلب معه مجموعة من التأثيرات العكسية.
الزخم الذي لف هذه التطورات، سواء كان مقصودا به جس نبض المصريين، أو إيقاظ شعورهم الوطني التقليدي، أو توجيه رسالة تحذير لإسرائيل من مخاطر التمادي في الضغوط الخفية، أو حتى تأديب عكاشة وأعوانه، اتخذ بعدا سياسيا وثقافيا واضحا.
على الصعيد الأول، أيقظ لقاء البرلماني المصري مع سفير إسرائيل بالقاهرة، ضمير عدد كبير من القوى الحزبية والسياسيين وأعضاء مجلس النواب، وطالبوا بفصل عكاشة من البرلمان، وهي رسالة تؤكد رفض أي تشريع رسمي باتجاه تطوير العلاقة مع إسرائيل في المستقبل، وأن الحديث بشأن هذا الملف، يمكن أن يحمل نتائج سيئة، بالتالي على تل أبيب أن تحافظ على ما وصلت إليه، لأن الضغط نحو توسيعه ربما يحمل عواقب وخيمة، ويهدم ما تم بناؤه في صمت خلال الأعوام الماضية.
على الصعيد الثاني (الثقافي) شعر الصحافيون والكتاب والمثقفون عموما، أن سكوتهم قد جرى تفسيره خطأ، وأنهم كانوا وسوف يظلون الحائط الصلب الذي يصعب على إسرائيل أن تخترقه، وبدا صوتهم المرتفع الأيام الماضية رسالة تحذير جديدة، تفيد بأنهم لن يتخلوا عن ثوابتهم، وانخراطهم في الهموم الداخلية لم ينسهم الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل، وسيبقى عدم التطبيع قضية محورية وفي بؤرة الشواغل الشعبية.
التقدير عندي أن النظام المصري، كان بحاجة لرفع أصوات الرفض، لتحقيق جملة من الأهداف، أبرزها تخفيض حجم الطموحات والأمنيات لدى إسرائيل، التي تراهن على أن القاهرة أضحت على استعداد لتلبية بعض المطالب المركزية في مجال زيادة وتيرة التعاون السياسي والأمني والثقافي، وأن مصر لن تستطيع التجاوب معها، جراء وجود رأي عام رافض لهذا النوع من التوجهات، الأمر الذي يمنح صانع القرار قوة وجرأة في مقاومة الضغوط التي تمارسها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.
لذلك تمثل الرسالة التي ظهرت عندما أثير الجدل حول التطبيع مع إسرائيل إحدى نقاط القوة التي تمنع النظام المصري من تقديم تنازلات جوهرية في أي ملفات ذات حساسية.