العرب - تدفع الجغرافيا العربية لوحدها ثمن صناعة تاريخ وحاضر ومستقبل القوى الإقليمية الأجنبية وفاتورة التدخل العسكري والسياسي والاستراتيجي للفاعلين الدوليين على أرضها. على وقع صراع القوى الناعمة تنفرط الوحدة الترابية وتنخرم السيادات وتضمحلّ الهويات الوطنية والجماعيّة مستولدة هويّات هجينة، تفضي بدورها إلى كيانات سقيمة هي في المحصلة عبارة عن “نصف دولة، نصف جيش، ونصف شعب”.
بالأمس فقط اعتبرت موسكو على لسان نائب وزير خارجيتها سيرجي ريابكوف أنّ الفيدرالية هي الحلّ الأمثل والأوحد في سوريا ما بعد الحرب، وأنّ هذا النموذج من النظام السياسي هو الأقدر على إخراج البلاد من حالة الاستعصاء الثقافي والحضاري والعسكري التي تعيش على وقعها منذ أزيد من 5 سنوات من عمر الأزمة.
التصريح يعدّ الأخطر من الدبلوماسية الروسية على مدى سنين المعضلة الشامية، وفي مستوى الخطاب السياسي لموسكو يعتبر متناقضا مع المدونة الدبلوماسية الروسية التي تقوم على مفردات “السيادة” والوحدة الترابية” في سوريا.
التصريح الروسي بالإمكان مقاربته في سياق تمثّل موسكو لوصفة السلام في البلاد قياسا على النموذج السوفياتي الذي انتقل من حالة الاتحاد بين الجمهوريات السوفياتية إلى الفيدرالية صلب روسيا القيصريّة، وقد نجح النموذج الفيدرالي في المحافظة على العديد من الكيانات السياسية على شاكلة الشيشان ضمن الفضاء الروسيّ، إضافة إلى تمكنه من ضمّ القرم إلى جناحه خلال الصيف الماضي.
بيد أنّ اللافت في هذا المقترح أنّه يكشف عن تقاطع جوهري استراتيجي بين موسكو وواشنطن على اعتبار التقسيم الناعم من خلال إفراد الحكم الذاتي للإثنيات المتمايزة عن السواد الأعظم للشعب، والمتميّزة سياسيا عن السلطة المركزيّة كمنظومة للتسوية السياسية في المنطقة العربية.
صحيح أنّ المقترح الروسي لإرساء الجمهورية الفيدرالية يأتي في سياق المناكفة السياسية والاستراتيجية لتركيا، حيث تعمل موسكو على تأبيد الصراع التركي الكردستاني من خلال إنشاء حكم ذاتي لأكراد سوريا يغذي حلم الانفصال، ويتحوّل بمقتضى الواقع إلى أدنى سقف تفاوضي بين أنقرة وأكراد شرق الأناضول في حال السعي إلى إنهاء الاقتتال الدائر منذ ثلاثة عقود.
وصحيح أيضا أنّ موسكو تريد من خلال هذا المقترح فسخ وتقويض ودحض كافة المحاولات السياسية للتسوية بين المخابرات التركية من جانب، وعبدالله أوجلان رئيس حزب العمّال الكردستاني من جانب ثان، والتي أفضت إلى مسودّة للتسوية راوحت مكانها بفعل الغارات التركية على معاقل “الكردستاني” في تركيا وفي العراق أيضا. غير أنّ الصحيح أيضا أنّ موسكو تهدّد سوريا بالتقسيم الناعم والتفكّك وتسحب النموذج العراقي على السياق السوريّ وكأنّ مصير البلدان العربية المنكوبة أنّ تستبدل المركزيّة المطلقة بفيدرالية التفتيت والتشرذم.
لم يرفع أكراد سوريا ليوم واحد عنوان الحكم الذاتي كشعار تحرّك سواء قبل الأزمة أو خلالها، غير أنّ التسويق للفيدرالية سيفتح شهيّتهم لا فقط للانفصال عن العاصمة المركزيّة وإنما أيضا إلى تكوين كيان كردي أقواميّ مع كردستان العراق وأكراد تركيا. على الجغرافيا السورية تتصارع مشاريع “الفيدراليّة” بين نموذج تركي ساع إلى الاستيلاء على المنطقة الشمالية باسم الكيان السنيّ، وبين نموذج روسيّ يبتغي فيدرالية سورية لإنشاء الكيان الكرديّ لا لتعميم السلام وإنّما لمنع المشروع الفيدرالي التركيّ في سوريا وإحيائه في شرق الأناضول.
هي الفيدرالية الزاحفة على سوريا وليبيا أيضا، حيث تسوّق الفيدرالية كحلّ سياسي وعسكريّ وإثني لغويّ لليبيا الجديدة. ليبيا ما بعد التدخّل العسكريّ الغربي الذي يعدّ له اليوم من الحدود الجنوبية التونسية، حيث يحضر المراقبون الألمان والبريطانيون للتحضير للعملية العسكرية المرتقبة. هي الفيدرالية الزاحفة أيضا على اليمن، حيث أنّ الحوارات القائمة لن تخرج عن مسودة دستور 2015 الذي نزّل اليمن السعيد في مقاربة الأقاليم بين الجنوب والشمال.
كلّ سيادة مخترقة تفضي إلى تسوية مختلقة، الوطن وحده يتحدث مع أبنائه كمواطنين ويبرم معهم، ولصالحهم، المصالحات، أمّا الأجنبيّ فينظر إلى الشعوب بعين الكيانات والجماعات والإثنيات والطوائف والهويات، ولئن تحدث الوطن باسم التعدد داخل الوحدة، فالثاني يصرّ على الوحدة داخل الكيانات المتعددة. وهكذا يضيع المكان والإنسان والزمان.