الحياة - تدعو الأحقاد المتبادلة والكراهيات التي تتبادل الإعلان عنها أطراف الصراع الأهلي إلى إعادة النظر في معنى الشراكة في كيان سياسي واحد. فبعد مئة عام من اتفاقية سايكس – بيكو، لم يعد من مجال للشك في فشل الدول الوطنية التي أسسها الاتفاق وتفسيراته وتطبيقاته. بيد أن الفشل هذا لا يمنعنا عن الإمعان في المضي فيه، حتى ليبدو أن الوقوع مرة بعد مرة في هاوية الحروب الأهلية أسهل علينا من الاعتراف بعدم القدرة على صوغ دولة وطنية مركزية متعددة الهويات.
تعيش الكيانات التي رسم سايكس وبيكو حدودها، أيامها الأخيرة وسط تصدعات وانقسامات غير قابلة للترميم وفق الأساليب والأدوات القديمة. ليس سراً أن العراق وسورية ولبنان لن تعود إلى ما كانت عليه قبل خمسة عشر عاماً (للأردن وفلسطين مقاربة مختلفة) وأن الصراعات والحروب، المفتوحة والمضمرة في هذه البلدان، تمتد عميقاً إلى صميم الاجتماع السياسي ومبررات وجود هذه الدول والأدوار التي أنشئت لأدائها.
ما كان للتغيُّر العميق الذي يشهده العالم منذ بداية التسعينات على مستويات الجغرافيا السياسية وعولمة الاقتصاد والثقافة وسيادة قيم السوق والاستهلاك أن يمرّ مرور الكرام على العالم العربي وخصوصاً على منطقته الأشد هشاشة، المشرق. لقد كشف ربع القرن الماضي عدداً كبيراً من الأكاذيب المؤسِّسة لدول المنطقة، من جهة، ورفد أكاذيب جديدة بأسباب الازدهار والتمدد، من جهة ثانية، على نحو بات معه من المحال الاستمرار في العيش وسط هذا المناخ الموبوء بالكذب والادعاء والجفاء حيال الحقائق الصلبة القائمة.
ولا يضيف شيئاً، في المعرفة والسياسة، الانخراط في جداول الأعمال التي يطرحها الإعلام اليومي ومنابره. ذلك أن السجال مع ما ورد في الخطاب الأخير لهذا أو ذاك، أو الموقف «الصادم» لوزير ما، لا يدفع إلى التقدم خطوة ولو صغيرة في اتجاه الخروج من المأزق العربي الحالي.
وبدلاً من خوض المعارك حول مصطلحات لم تحمل يوماً غير توريات لأزمات الهوية والكيان والأقليات ومخاوفها، قد يكون أجدى اليوم البحث عن صيغ سياسية تعالج الأسباب الحقيقية التي منعت على امتداد قرن من الزمن تحوّل الدول في المشرق العربي من أجهزة تسلط وقمع على أساس الهوية والطائفة والعرق والمذهب، إلى كيانات تقف موقف المساواة حيال مواطنيها وحقوقهم السياسية والثقافية وتوفر لهم فرص التعبير الحر عن تطلعاتهم ومخاوفهم.
لكن هذا التحول يتناقض رأساً مع الأيديولوجيات التي حكمت هذه المنطقة في القرن الذي بدأ مع سايكس – بيكو. وإذا كان المجال هنا لا يتسع لاستعراض مهازل القومية البعثية وغير البعثية، والكوارث التي جلبتها الانقلابات العسكرية وظهور الجيوش الطائفية الخاصة، إلا أن الأرضية المشتركة لكل هذه الظواهر المرضية كانت فكرة توسيع الكيان السياسي كمهرب من البحث الدقيق عن مشكلات الكيانات القائمة: الوحدة العربية بدلاً من الدولة الوطنية، الأمة الإسلامية بدلاً من التفكير في العلاقة مع الأقليات الدينية والعرقية... الخ
وصلنا اليوم إلى القعر الذي ستتقاتل عليه الجماعات والطوائف المتمسكة بالتعايش مع بعضها ضمن كيان سياسي واحد والمنكرة لفكرة الصراع المذهبي والطائفي. وبدلاً من التفتيش عن أطر فيديرالية أو لامركزية موسعة – فكل فيديرالية تخدم إسرائيل على ما يقول المتناحرون في شتى الخنادق، وكأن إسرائيل تنقصها خدمات- نتمسك برقاب بعضنا لنغرق جميعاً ونحن نردد أناشيد العروبة والوحدة.