العرب - تنفجر في الجزائر قضية سياسية أخرى، تحت مظلة الأدب والدين وحرية التعبير، بسبب داعية سلفي وهو عبدالفتاح حمداش، وكاتب روائي في أول الطريق هو كمال داود. لا شك أن هذه القضية تبدو ظاهريا بأنها قضية تتعلق بالدفاع عن حرية الإبداع الأدبي، ولكنها في الجوهر تخفي أمرا مهما ويتمثل في شروع النظام الجزائري في التخلي عن السلفية الإسلاموية من خلال أحد أقطابها المتمثل في شخص عبدالفتاح حمداش الذي يقود حركة “الصحوة الحرة الإسلامية السلفية” التي لم تحظ إلى يومنا بالاعتراف الرسمي من طرف النظام رغم أنها تمارس نشاطاتها علنا ويغض عنها الطرف.
في هذا الأسبوع تناقلت وسائل الإعلام خبر صدور حكم إدانة محكمة وهران بالغرب الجزائري، ضد الداعية السلفي الجزائري عبدالفتاح حمداش وذلك بالحكم عليه بالسجن لمدة ستة أشهر بينها ثلاثة غير نافذة، إلى جانب غرامة مالية رمزية بسبب دعوته في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى هدر دم الروائي الجزائري كمال داود. ومن المنتظر أن يطعن المحكوم عليه بالسجن في هذا الحكم الصادر ضده وذلك وفقا للقانون الجزائري.
ومن المعروف حسب هذا القانون، أن الطعن في الحكم القضائي على مستوى المحكمة الابتدائية يعني استئناف المحاكمة في المجلس القضائي بنفس المحافظة، وإذا صدر حكم آخر فيها بنفس العقوبة أو أكثر تشددا منها على مستوى المحكمة نفسها فإنه يمكن للمحكوم عليه أن يتقدم بطعن آخر، وبموجبه يحول ملف القضية إلى المحكمة العليا بالجزائر العاصمة لتصدر الحكم النهائي غير القابل للطعن.
ماذا يعني أن تصدر المحكمة التابعة للنظام الحاكم مثل هذا الحكم ضد شخصية سلفية معروفة كانت ولا تزال تنشط بحرية تامة عبر البلاد وفي وسائل الإعلام المختلفة؟ وهل نفهم من طلب وكيل الجمهورية، المعين بمرسوم رئاسي، بمحكمة وهران بسجن حمداش أن النظام الحاكم قد زهد من صولات وجولات السلفيين، ومن تصريحاتهم، ومن الفتاوى التي يصدرونها دون أن توافق عليها أو ترفضها وزارة الشؤون الدينية ومن ثم المجلس الإسلامي الأعلى، علما أن هاتين المؤسستين جزء عضوي من الترسانة الأيديولوجية للنظام الحاكم؟
وهل يعني كل هذا نهاية الزواج بين النظام وبين السلفيين الذين استعملهم في الماضي كغطاء لاكتساب جزء من الشرعية، ولتهدئة الأوضاع قصد إنجاح المصالحة الوطنية؟ وهل أنصفت محكمة وهران الجهوية حرية التعبير والروائي كمال داود أم أن المسألة ليست عابرة وأن القطب السلفي لن يسكت وسيتحرك للدفاع عن حمداش؟ ثم هل تصريحات كمال داود بريئة فعلا من التهجم على القرآن والرسول سواء في نص روايته التي نال عنها جائزة الكونكور الفرنسية للرواية الأولى، أو في تصريحاته التي أدلى بها في وسائل الإعلام الفرنسية،.
حيث تهجم على العروبة التي اتهمها بإفساد الثقافة الجزائرية، وحمّل الإسلام تخلف الجزائر؟ من المسؤول مباشرة عما يكتب وينشر، في الطبعة الجزائرية من الإنترنت التي تتحكم فيها الدولة مباشرة، من فتاوى ودعوات إلى حجر حرية التعبير الحضاري والمتمدن؟ لماذا يسمح المسؤولون في أجهزة الدولة وفي مقدمتهم وزارة الاتصال، ووزارة البريد وتكنولوجيا المعلومات بهتك أعراض الناس ومشاعرهم في وسائل التواصل الاجتماعي؟ ولماذا لم يسن البرلمان ومجلس الأمة القوانين التي تنظم هذه الوسائل وتحمي المواطنين من كافة أشكال العنف الرمزي والمادي التي توجه لهم فيها؟ ولماذا لكمال داود بالذات الكاتب المحسوب على التيار الفرنكفوني وليس غيره، علما أن منبر الإنترنت الجزائري لا يخلو من آراء منشورة مؤخرا بأسماء أصحابها ومن بينهم أساتذة الجامعات المعربين ينفون صحة بعض السور القرآنية، ولكن لا أحد تحرك ليناقش مثل هذه الأمور بالحجة العلمية، وبالأسلوب الحضاري المقنع وبعيدا عن المطالبة بتطبيق الحد أو العقاب المادي سواء من جهة النظام الذي يحتكر تسييس الدين والتحكم فيه أو من قبل السلفيين أنفسهم؟
الغريب في أمر الداعية السلفي حمداش أنه حكم على رواية كمال داود، التي يمكن تصنيفها ضمن الأدب ما بعد الكولونيالي النقدي للاستعمار، وهو قد أعلن مؤخرا في حديث تلفزيوني أنه لم يقرأها كاملة وإنما اطلع على بعض الفقرات منها فقط، كما أنه لا يميز بين العمل الأدبي التخييلي، وبين التصريح المباشر في مقال أو في حديث صحافي اللذين يمكن أن يرقيا ليكونا وثيقتين لا خيال فيهما، وغير قابلتين للتأويلات المختلفة التي يخضع لها أي نص إبداعي.
إذا طبقنا معيار حمداش، فإن مصير معظم أصحاب النصوص الفلسفية، والأعمال الأدبية التخيلية، والتحف الفنية التشكيلية والتماثيل هو تطبيق الحد عليهم بما في ذلك أبوالعلاء المعري ودانتي آليجري. ألا يكفي حمدوش أن الكاتب كمال داود قال مؤخرا في حديث تلفزيوني موثق مع فضائية الشروق الجزائرية إنه مواطن جزائري مسلم مؤمن ومتدين، وأن نصوصه الإبداعية تنتمي إلى مجال التخييل، وليس إلى مجال إصدار الأحكام المباشرة، وأن مشكلته ليست مع الإسلام وإنما مع الإسلامويين المتطرفين؟
النظام الجزائري يتقن “اللعب” في كل الملاعب بدءا من الدين والاقتصاد والثقافة، وجميع ما يعرف في حقل الفكر السياسي بأجهزة الدولة الأيديولوجية الناعمة أو الغليظة، وذلك لكي يعمق هيمنته ويبقى في الحكم اليوم وغدا، وأنه سيوظف مثل قضية كمال داود والداعية السلفي حمداش ليظهر أنه حامي حمى الحريات.