العرب - كان التشيّع حزبا قبل أن يتحول مذهبا. في ما بعد التحق الفقه المدرسي بالمدرسة المتمردة على الحياة السياسية. من المؤكد أن الفقه احتوى المتمردين ودجنهم. شيء من هذا القبيل يمكن أن يقع في تاريخ الأفكار. ومع ذلك فإن حسابات الفقه تظل دائما منخفضة قياسا لما يحلم به الثوار المعارضون الذين لا يفقهون معنى التوازن في المعادلات. وهو ما تشف عنه تجربة الخليفة الرابع في الحكم التي لم تكن ناجحة إلا في جانبها النظري. وهو ما ورثته شيعته عنه. فشل في الحياة العملية ونجاح لا مثيل له في عالم المثل والمبادئ. كانت الخسارات ماثلة في كل منعطف. وهي خسارات لا يُعتدُّ بها لو قيست بما يمكن أن يربحه الإنسان على مستوى صلحه مع النفس.
أما الدول التي أقامها أتباع مبدأ التشيّع عبر التاريخ الإسلامي، وهي دول كثيرة، فلم تقوَ على البقاء إلا لأنها قفزت على ذلك الجانب النظري وقررت أن تتخذ من دولة بني أمية نموذجا تقتدي به. لم يكن التشيع إلا واجهة، أما حقيقة الفعل السياسي فإنها تنسف كل المبادئ التي خسر الإمام علي بن أبي طالب فرصته في الحكم من أجل الدفاع عنها.
وكما أرى فإن الدولة التي يقودها خامنئي في إيران اليوم ليست غريبة عن ذلك السياق التاريخي. ما لم تخسره إيران في مفاوضاتها مع الشيطان الأكبر، الذي هو الولايات المتحدة، كان من الممكن أن يخسره الإمام علي لو كان مفاوضا في المراحل الأولى من تلك المفاوضات.
لقد أخفق الرجل في كل المفاوضات التي كان طرفا فيها. بل إنه انتهى في واحدة منها (معركة صفين) إلى ما صار يعد في ما بعد بمثابة فضيحة تاريخية. كانت اللعبة السياسية أكثر تعقيدا من أن يدرك أسرارها عقل رجل وهب حياته إلى المبادئ.
لذلك فإن الحديث عن تشيّع سياسي إيراني (استبعد هنا صفة صفوي المتداولة، فهي ليست مناسبة) لا يفتري على الواقع في شيء. فالنظام الإيراني الذي يصدّر فكرة تشيعه التي تُنسب إلى الإمام علي هو في حقيقته نظام سياسي عملي، لا يجد في تحالفه مع الأعداء النظريين ما يُرهق ضميره الشيعي. قبل مفاوضات النووي الإيراني كان نظام ولاية الفقيه قد تواطأ مع الولايات المتحدة لإسقاط نظامي طالبان في أفغانستان وصدام حسين في العراق ليتخلص من عداء، من غير أن يفكر بالمبادئ التي يصدرها إلى مريديه.
لم تقف تلك المبادئ بين النظام الإيراني، وبين المساهمة في ذبح شعبين مسلمين. كانت إيران بالنسبة إليه هي الأساس، أما التشيع بمبادئه فقد كان حديث مجالس. على المستوى السياسي كان النظام الإيراني عمليا في الدفاع عن مصالحه غير أن ذلك السلوك العملي شيء، وما صدره إلى “شيعة” العالم العربي شيء آخر.
في غير مناسبة كان ذلك النظام صريحا في حديثه عن أذرعه الممتدة في العالم العربي وهو يقصد أتباعه من الحزبيين الملتزمين بأوامره، المنفذين لسياسته بما يعني خيانتهم لشعوبهم. إنهم شيعة خامنئي وليسوا شيعة علي. أيوجد قياس آخر للنظر إلى ما يفعله حزب الله بلبنان، وما يفعله حزب الدعوة بالعراق؟
من وجهة نظر الولي الفقيه فإن جهاد الشيعة إنما يصب في خدمة إيران. ولا أبالغ إن قلت لو أن إيران قد وجدت أن إقامة علاقة استراتيجية مع إسرائيل تخدم مصالحها لفرضت بنود تلك العلاقة على الفقه الشيعي.
مَن يصدق أن إيران شيعية لأنها تؤمن بالمبادئ التي خسر الإمام علي من أجلها حياته فهو ساذج أو جاهل أو معتوه.
من حق إيران، طبعا، أن تكون شيعية على طريقتها، لكن ليس من حقها أن تستبدل عليا بخامنئي، ليكون الشيعة أتباعا لولي فقيه يجاهر ليل نهار بالعداء للولايات المتحدة، ويمد من تحت الطاولة يده لمصافحتها.