الرياض - أثناء مناورات رعد الشمال كان هناك اجتماع لوزراء الخارجية العرب في الجامعة العربية حيث القى وزير خارجية العراق إبراهيم الجعفري كلمة تضمنت مواقف سياسية اقل ما يقال عنها انها فجة ومعيبة وغير لائقة.
كنت ممن يتوسمون في الجعفري خيرا فحديثه وتصريحاته، برغم توجهاته، غالبا ما تكون هادئة ومركزة ومقنعة الا انه فاجأنا في كلمته بالجامعة العربية بقنبلة من العيار الثقيل حينما رفض "المساس بالحشد الشعبي وسائر حركات المقاومة لأنهم حفظوا كرامة العرب" واصفا حزب الله بالحزب العربي وقائلا بكل وقاحة إن "من يتهمهم بالإرهاب هم الارهابيون". إننا هنا لا نستهدف الجعفري كشخص، بقدر ما ان الأمر يتعلق بموقعه الوظيفي وانعكاس ذلك على طبيعة علاقات بلاده مع الاخرين.
أحسن الوفد السعودي صنعا بالانسحاب ليسجل بذلك موقفا واضحا إزاء ما طرحه الوزير العراقي. وإن كنا لم نعتد منه هكذا طروحات حادة او متأزمة او شاذة تخالف الواقع فضلا عن ان منصبه الرسمي يحتم عليه عدم الانجراف لهذا المستوى الوضيع حتى ولو كانت لديه قناعات معينة لان الدبلوماسية تخضع لمعايير وتوازنات معينة وتفرض تعاطيا مختلفا عن الأسلوب الذي يطرحه.
رب قائل يقول ان الرجل ربما تعرض لإملاءات او رضخ لضغوط او طُلب منه إيصال الرسالة او انه كان يبحث عن مصلحة ذاتية وهي الأرجح على أي حال. ومع ذلك فما تفوه به سقطة كبيرة لا يمكن تجاوزها ولا يمكن ان تمر مرور الكرام. والمثير للسخرية ان يخرج علينا الجعفري بهكذا تصريحات وهو موقن ان من يدافع عنهم هم سبب من أسباب الانكسارات والجروح التي أصابت الجسد العربي.
المفارقة ان مناورات رعد الشمال كانت تحمل في ثناياها إجابة قاطعة عن حديث الجعفري من كونها تمرينا عسكريا على مواجهة الميليشيات والقوات غير النظامية. أضف الى ذلك ان الجامعة العربية استفاقت من غيبوبتها واضطلعت بمسؤولياتها ولم تعر اهتماما لما طرحه الجعفري، وكان مجلس وزراء الخارجية العرب أصدر قراراً باعتبار حزب الله "منظمة إرهابية" وسط تحفظ عراقي ولبناني.
إن قلقنا الحقيقي هنا على العراق وعلى مكانته وتاريخه وحضارته والخشية من ان قراره السياسي مازال مرتهنا لإيران كما فعلت مع لبنان وهو امر لا يقبله غالبية الشعب العراقي الحر الابي. كنا نشكو من تصريحات نوري المالكي المشينة إزاء المملكة وحتى قبل إقالته بث بذاءاته وسمومه وهو يتولى منصباً رفيعاً ولم يمكن اعتبارها حينذاك رأياً شخصيا.
الجعفري الذي ينتمي لذات حزب المالكي اليوم يمارس أسلوبا مشابها للأسف الشديد رغم ان ذلك يتعارض مع طبيعة منصبه الدبلوماسي الذي يهدف لتعزيز العلاقات لا لتأزيمها. إن المالكي كان بأسلوبه الممنهج آنذاك يسعى لعزل العراق عن محيطه العربي، وحاول ضرب التقارب السعودي - العراقي الذي تشكل في الشهور الماضية ولا غرابة في ذلك فهو المتحدث باسم إيران والذي جعل بلاده رهينة في يدها منفذاً أجندتها وبامتياز. اعتبر كثير من المراقبين ان ما قاله الجعفري يندرج في إطار محاولاته للحصول على مقعد وزاري في حكومة العبادي الجديدة ولأنه مهدد بالاستبعاد بسبب سوء ادارته للوزارة وتخبط السياسة العراقية.
وصفه أحدهم انه استغل الكلمة في الجامعة لمحاولة التشبث بمنصبه وذلك "بتوجيه رسالة للأحزاب والتيارات الشيعية في العراق، تظهره بأنه خير من يدافع عن الشيعة في المحافل العربية والعالمية". وليس سرا تبعية هؤلاء للملالي سواء ممن كانوا في حزب الدعوة او أعضاء الائتلاف الموحد (دولة القانون والمجلس الأعلى الإسلامي والتيار الصدري) بدليل انتمائهم لإيران العقيدة قبل إيران السياسة، وتعهداتهم للولي الفقيه.
من المعروف ووفقاً لتقارير منشورة اتضح بأن هناك أربعة مستويات للتدخل الإيراني تتمثل في التواصل مع القادة الدينيين والعلمانيين، ومع المسؤولين الحكوميين واختراقها للمؤسسات الحكومية فضلاً عن اختراقها للجيش والأجهزة الأمنية وذلك بإنشاء خلايا مخابراتية ناهيك عن تقديم معونات وإقامة مشروعات في المناطق الشيعية. وقد نجحت الإستراتيجية الإيرانية في إبقاء اللاعبين السياسيين ضمن دائرتها.
الإشكالية في العراق ليست في وجود حكومة ومؤسسات وإنما في اتجاه بوصلة الانتماء. هم لا يعرفون الا طهران رغم ان النظام الايراني الذي دعم الميليشيات الطائفية ساهم وبامتياز في تدمير العراق. ولعل تخبّط إدارة بوش الابن السابقة من العوامل التي أدت لهذه الحال الراهنة فهي لم تضع إستراتيجية لعراق ما بعد صدام، ولم تطلع على خفايا الواقع المذهبي والاجتماعي بدليل ما نشاهده اليوم من استقطاب طائفي واثني. كما ان تقاعس العرب آنذاك عزز تدخل إيران في مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية.
ان غياب وجود توافق عراقي وطني يستقطب الأغلبية العراقية في ظل تدخلات سلبية من قبل إيران يدفع بغداد نحو التناحر وتكريس الفكر الطائفي وتغليب التوجهات الضيقة. صفوة القول: حديث الجعفري معيب واستفزازي ولا يساعد على مد الجسور مع الجيران بل يهدف لمكاسب شخصية على حساب علاقات العراق بمحيطه العربي ويُعيد مرحلة التوتر التي لا نريدها فهدفنا وحدة العراق وعودته الطبيعية للحضن العربي.