الرياض - يخلط فلاديمير بوتين أوراق الأزمة السورية من جديد، فالرجل الذي فاجأ الجميع بإرساله قوات روسية إلى سورية في سبتمبر الماضي، ها هو يفاجئ المتابعين للأزمة السورية والمعنيين بها بسحب "الجزء الأساسي" من قواته بعد ستة أشهر، وفي اللحظة التي انطلقت فيها الجولة الأولى من المفاوضات في جنيف زادت وتيرة الضربة العسكرية الروسية، ما أدى إلى إنهاء الجولة من قبل "دي ميستورا" تفادياً لانهيار المباحثات، وفي اللحظة التي بدأت فيها الجولة الثانية من المفاوضات يقوم الرئيس الروسي بإنهاء الحملة العسكرية على سورية!.
ما يدور في رأس بوتين لا يمكن التنبؤ به، هذا ما يخبرنا به مسار الأحداث على الأقل في الأزمة السورية، لكن بالإمكان استنباط بعض الأسباب التي قد تكون دفعت الكرملين إلى اتخاذ هذه الخطوة المفاجئة، فالحملة التي بررتها موسكو بأنها موجهة ضد الإرهاب لم تقض عليه، فمواقع "داعش" والنصرة لم تتأثر بل من تأثر في الحقيقة هي مواقع المعارضة المعتدلة التي يصنفها نظام الأسد بأنها قوات إرهابية، وتضعها موسكو محل اشتباه يرتقي لمستوى الإرهاب.
الهدف الحقيقي من وراء الحملة العسكرية كما يظهر اليوم إلى حد كبير كان تأهيل النظام وإعادة تعويمه؛ ليخوض المفاوضات من منطق القوة لا من منطق الضعف فيحافظ من خلال ذلك على مصالح روسيا الإستراتيجية في الشرق الأوسط، وبالنسبة لموسكو فنظام الأسد هو الضامن لمصالحها، وهو من يرجّح كفتها في هذه الأزمة، ويمثلها في هذه المفاوضات، وبالتالي فإن الحفاظ عليه كان أولوية تكتيكية، وليست إستراتيجية، بعد ذلك يمكن لنا أن نتساءل: أي السلال سيضع بوتين مصالحه فيها؟ هل سيستمر النظام بنسخة أقل تلوثاً أم سيولد فصيل آخر على أنقاضه؟ الثابت لدى موسكو أنها بالنسبة للسوريين غير مستساغة بعد أن فضلت الاصطفاف بجانب النظام ضد شعبه، ولذا لا مستقبل لها إلا بحليف موثوق.
سورية بالنسبة لروسيا منطقة ذات أهمية جيو سياسية مهمة فهي عملياً ملاصقة لإحدى أهم دول الناتو وهي تركيا، لكن سورية نفسها ليست في المجال الحيوي أو المفضل بالنسبة لموسكو، فالمنطقة بعيدة، و الصراع معقد، والحملة العسكرية وما تجره من تكاليف باهظة للخزانة الروسية أمر لا يمكن احتماله لفترة طويلة، لذا كانت الضربة الروسية عنيفة جداً على حلب وبعض مناطق نفوذ المعارضة المعتدلة والهدف منها تسجيل أكبر عدد من النقاط لصالح النظام في أقل وقت، وكذلك كسر ظهر المعارضة في أهم مواقعها، هنا وضع بوتين النظام في مواقع متقدمة وقد يكون ذلك جزءاً من الاتفاق الأميركي – الروسي بعدم المساس بهذه الترتيبات التي فرضتها روسيا على الأرض نظير انسحابها العسكري من المشهد، وهذا بدوره سيسجل لصالح بوتين من جهة أنه يضغط بذلك على النظام بشكل أكبر، وفي ذات الوقت يدفع بالمسار السياسي الدبلوماسي الذي تريده وتشجعه واشنطن، وينقذ موسكو في الوقت نفسه من الاستنزاف، وهنا يكون الرئيس الروسي قد حوّل ما ظن المتابعون أنها لعبة "روليت روسي" خطيرة للغاية إلى لعبة "ماتريوشكا" تعتمد المفاجأة في كل أجزائها.