الاتحاد- ظهر أبو محمد المقدسي، في برنامج «مرايا» (تقديم مشاري الذَّايدي على شاشة قناة «العربية»)، مفاضلاً بين أبي مصعب الزَّرقاوي (قُتل 2006) وأبي بكر البغدادي، مادحاً الأول لعدم قتله رفاقه، وذاماً الثَّاني لإعدامه رفاقه بذريعة الخيانة أو التَّراجع. مع أن الإرهاب الذي مثله الزَّرقاوي (تلميذ المقدسي) لم يبقِ رقبة وصل إليها مِن رقاب المسلمين وغيرهم. وعلى هذا الإنجاز الوحشي رثاه المقدسي في قصيدة جعله فيها إمام الأئمة، وأنه خط بالذبح والتفجيرات مستقبل الأُمة الزَّاهر! نقد المقدسي أيضاً البغدادي على إعلان الخلافة الإسلامية بهذه الطريقة، وعلى أنه شوه الجهاد السلفي في المبالغة بالتوحش.
لا يهمنا في هذه الكلمة موقف المقدسي من الزَّرقاوي، وضد البغدادي، بقدر ما نلفت النَّظر إلى المفاضلة بين إرهابيين، في أن يكون إرهابي أهون من آخر، مع أن المدرسة واحدة والأُصول سواسية، وكان البغدادي تحت قيادة الزرقاوي، والاثنان شربا مِن بئر الجهادية السلفية، وأن نصل إلى زمن نفضل فيه قاتلاً على قاتل، كالذي يستخدم المنشار في حز الرقاب وآخر يستخدم السكين، وهي وصايا معروفة عند فقهاء المعاملات والعبادات، أن تستخدم في ذبح الشَّاة السكين الحادة، التي لا تعذبها، هكذا كانت مفاضلة المقدسي بين الزَّرقاوي والبغدادي.
أشار المقدسي إلى أن الزرقاوي لم يسن قتل رفاقه المنشقين أو المعترضين، بوشاية التجسس أو العمل ضد التنظيم، أو لتراجع بدا منهم، بينما البغدادي أعدم العديد من منتسبي التنظيم وعلقهم على الأعمدة، على اعتبار أنهم ارتدوا عن التنظيم، وبالتالي أنزل فيهم عقاب حد الردة عن الدِّين، وهو القتل وبأي أسلوب وحشي كان: حرق في أقفاص حديدية مغلقة، أو التغطيس في الماء، أو حشرهم في سيارة ثم يتم تفجيرها!.
ولابن نباتة السعدي المعروف بشاعر العراق (ت 405ه) بيت سائر على الألسن: «ومَن لم يمت بالسَّيف مات بغيره/ تنوعت الأسباب والموت واحد» (الذَّهبي، سير أعلام النُّبلاء). هكذا يفسر تنوع أساليب الإعدام لدى «داعش»، أساليب تترك أثراً مؤلماً في النُّفوس لا يمحى.
كأن المقدسي يريد تحسين صورة قاتل وصف برأس الشَّر، وكأن إعلان قتل الشيعة العراقيين، في بيانات شهيرة، لم يُعد عند المقدسي إلا مِن أساسيات الجهاد، غير أن البغدادي أثاره لأنه أعدم المجاهدين، وتجاوز شيوخه في إعلان الخلافة الإسلامية، وقد أرادها جهاداً شاملاً بلا هوادة، لا تكون بمكان واحد! ومعلوم أن المقدسي، الذي لم يعترض على تلميذه لإعلان قتل الشيعة، كان قد أصدر كتاباً تحت عنوان: «الكواشف الجلية في تكفير الدولة السعودية»، فماذا سيكون موقفه مِن أهل المذاهب الأُخر، بمعنى أن جهاده وتكفيره أوسع مِن جهاد تلاميذه، ذلك إذا علمنا أن البغدادي عمل تحت قيادة الزرقاوي، وأعلن عن طلب ثأر أُسامة بن لادن (قُتل 2011)، وبالفعل أخذ الثَّأر بمائة عملية جهادية، مِن عامة الناس: طُلاباً وكسبة، وموظفين بسطاء!.
كان الزرقاوي والبغدادي وثالثهما المقدسي متعمقين في الدراسات الدينية، وليس مثلما يوصفون بأنهم طارئون على الدين، لكنهم انشغلوا بالنصوص التي غدت خارج الزمن، ويعدون كافتهم، حسب تعليمهم الديني، فقهاء في السلفية الجهادية. فالبغدادي لديه بكالوريوس في الدراسات القرآنية، وماجستير في تلاوات القرآن، والدكتوراه في الموضوع نفسه، وهو بلا شك كان نتاج الحملة الإيمانية (أعلنها نظام صدّام حسين عام 1994)، وكان الزرقاوي تلميذاً نجيباً للمقدسي، ثم تعلم الفقه الجهادي في مدارس أفغانستان، وكذلك شيخه المقدسي، فهما نتاج تعليم الجهاد الأفغاني. كان الزرقاوي مبجلاً لدى جماعة «الإخوان المسلمين»، وقد ظهر هذا التبجيل بمجالس العزاء التي أقامها «الإخوان» الأردنيون بعد قتله، ولم تهز الدِّماء التي سُفكت ذبحاً وتفجيراً شعرة لـ«الإخوان» والسلفيين الجهاديين.
تُذكرنا مفاضلة المقدسي بين الزرقاوي والبغدادي بسارق الأكفان، بعد موته ظل الناس يتحدثون بموبقته، ففكر ولده بفعل يجعل الناس ينسون أباه، بل ويترحمون عليه، فعمد إلى سرقة الكفن مع هتك حرمة الميت وترك الجثمان في العراء، فمِن يومها أخذ الناس يترحمون على الأب. هكذا حسب المقدسي جاء بعد الزرقاوي مَن يُنسي الناس شره، والبعض ينتظر مَن يُلطف أفعال «داعش»، وليس لنا تخيل ما سيفعل. قال الجواهري: «أكانَ للرِفِقِ ذِكرٌ في مَعاجِمهمْ/ أم كانَ عن حِكمةٍ أو صحبِهَ خَبَر» (تحرك اللحد 1936). أقول: عندما يختلط الدين بالسياسة وحمل السلاح بعقيدة دينية، تصبح القسوة مقدسة.. وهم رؤوس شرٍّ كافة.