الحياة - لا يصح اعتماد التجارب الفيديرالية الناجحة في البلدان المتقدمة نموذجاً للاستلهام والمقارنة، لدى معالجة مسار انهيار «الكيانات الوطنية» في بلدان «الربيع العربي» من طريق الفدرلة. فتلك التجارب الناجحة، سواء كانت في أميركا أو أوروبا، حدثت في أوضاع تاريخية مغايرة كلياً للأوضاع المتفجّرة في البلدان العربية. فهي تشكّلت على أرضيات ثقافية ومجتمعية انتصرت فيها مكتسبات الحداثة الكونية، مما مكّن تلك الشعوب من تقرير مصيرها بنفسها، فجاءت عملية الفدرلة استجابة لإرادة تعاقدية لديها، واستجابة لحاجاتها الداخلية المحضة ومصالحها العليا، بعد أن طردت شروط الاحتراب الداخلي من حياتها العامة، فتوجت الفدرلة سيرورة راسخة من السلم الأهلي وسيادة منطق التقدم.
وهذا فيما يجرى الحديث عن الحل الفيديرالي في سورية في الدوائر النافذة دولياً، بعد تفجّر التساكن المحتقن بين الطوائف والمذاهب والقوميات، أي تفجر التساكن المستمر منذ عقود تحت رعاية «دولة البعث» السلطانية. وهو يجرى في زمن «تفكك الدول والمجتمعات» مترافقاً مع الحضور الطاغي لقوى إقليمية في الوضع السوري، تشترك جميعها في معاداتها قيم الحداثة والتنوير. وأيضاً، يجرى في زمن عالمي يتسم بفوضى مرحلة ما بعد الحداثة، وغياب المشاريع الكونية الكبرى، التي من شأنها التصدي لتضخم أزمات عالمنا ونمو أشكال اغترابه المختلفة.
لم تكن أزمات الكيان السوري، منذ تأسيسه بداية القرن الماضي، ناجمة عن عدم قيام نظام فيديرالي، بل هي أوسع من ذلك بكثير. والسوريون الذين فشلوا طيلة قرن في بناء دولة وطنية لأسباب مختلفة، لن يستطيعوا إقامة نظام فيديرالي ناجح للأسباب ذاتها. فتشكيل هكذا نظام أكثر تعقيداً من تشكيل النظام المركزي.
ولا يعكس الحديث الحالي عن الفيديرالية مؤامرة عالمية، أو رغبة دولية لتغيير كيانات «سايكس– بيكو» وفقاً لاتفاق «كيري – لافروف»، بمقدار ما يمثل مصلحة في تطويع نتائج المسار الانحداري لتجربتي البعثيين والإسلاميين، قبل الثورة السورية وبعدها، لكي تتوافق مع محصلة صراع القوى الدولية والإقليمية في سورية وعليها.
لم توفّر، سابقاً، «الوطنية السورية» الباهتة، الملحقة بالمنظومة الديماغوجية البعثية، والخاضعة خضوعاً مطلقاً لشروط الاستبداد الشمولي، مجالاً عاماً للسوريين لمناقشة قضاياهم المصيرية، فظلت قضيةٌ عادلة كالقضية الكردية خارج التداول العام، ولم ير معظم السوريين الاستلاب القومي والثقافي والسياسي الذي عانى منه الأكراد بسبب تسييس العروبة وفرضها بالقوة لحجب ثقافتهم وخصوصيتهم القومية. وبالتالي، لم يروا أن الإشكالية الكردية، التي انفجرت مع انهيار «الاجتماع الوطني السوري» هي، أساساً، من إنتاج شوفينية القومية العربية واستبدادها.
كذلك، يتصل تفجّر المسألة المذهبية السنية – العلوية ببنية السلطة أكثر من اتصاله بالانقسام العمودي الذي ورثه الكيان السوري عن تاريخه المملوكي – العثماني، إضافة للارتباط الوثيق بين صعود التنظيمات الإسلامية المتطرفة ونهج السلطة في التوظيف السياسي لهذه الظاهرة، أكان في مواجهة الثورة السلمية، أو في ابتزاز دول الإقليم والعالم.
ويرجح أن تتطابق حدود الفيديرالية المقترحة في أذهان المشتغلين عليها، مع الحدود الجغرافية التي سترسمها الحرب الدائرة على الأرض السورية بالتعالق مع هذه الإشكاليات الثلاث، أي المسألة الكردية، والحالة المذهبية السنية – العلوية، وحدود المنطقة الشرقية من سورية، التي تسيطر عليها الفصائل الإسلامية المتطرفة. لكن ذلك لن يؤسس إلا فيديرالية فاشلة، لأن الميليشيات المختلفة (السنية والشيعية والعلوية والكردية)، ومن خلفها القوى الدولية والإقليمية الداعمة لكل منها، هي من سيخط حدودها.
فتخيلوا هذه «الدولة الفيديرالية»، التي ستصنعها ميليشيات طائفية وإثنية ما دون وطنية، في غياب الأحزاب والرأي العام والقوى المدنية والبرلمانات! أما من جهة ثانية، فلا يتيح الاختلاط المذهبي والطائفي والقومي في التركيبة السكانية السورية قيام مناطق صافية عرقياً أو مذهبياً في أي تقسيم فيديرالي مقترح، ومن ثم ستكون التراكيب السكانية الهوويّة الحالية هي ذاتها في «الأقاليم» الجديدة. وهذا معناه أن من لم يستطع بناء علاقات توافق واندماج في الكيان السوري الكبير، لن يستطيع تحقيقها في كيانات صغرى، ما يجعل تلك الكيانات الصغرى مدخلاً لحروب مديدة لا تنتهي.
ومن جهة ثالثة، سيكون أي شكل فيديرالي قادم، مع الانكفاء الأميركي عن المنطقة، نتيجة توافق روسي – إيراني – إسرائيلي أساساً، وهذا المثلث معادٍ لطموحات السوريين الوطنية.
إن السوريين يملكون تجربة «دستورية» ثمينة، توجها برلمان الأعوام 1954 – 1958، الذي قرر الوحدة السورية – المصرية. فإذا كان لا بد من الفيديرالية، فستكون منقوصة الشرعية، إذا لم يُقرّها برلمان بالمواصفات نفسها على الأقل.