العرب - أمضى جورج طرابيشي سنوات طويلة من عمره في دحض كتاب "نقد العقل العربي" لمحمد عابد الجابري. أدهشه الكتاب في البدء، ثم أمضى عقدين من عمره في دحضه. ويمكن للمرء أن يتفق مع جوهر نقده للكتاب. فالكتاب بني على مخطط مبسط جدا يقوم على انقسام الفكر العربي عمليا بين مشرقي ومغربي. المشرق هو العرفان، والمغرب هو العقل. بالتالي، فتاريخ العقل العربي هو حركة انتقال جغرافية من المشرق نحو المغرب. ليس ثمة جدال في هذا الفكر، ثمة حركة جغرافية. وحين يحصل جدال، كما في جدال ابن رشد مع الغزالي في "تهافت التهافت"، فأساس الجدال جغرافي. وبما أن ابن رشد أرسطي حتى النخاع، لذا فالفكر العربي كان يرحل نحو أرسطو، نحو الغرب، ولا يؤسس أسئلته الخاصة.
رغم ذلك، فإن كتاب الجابري أسهم بعمق في بناء طرابيشي. من دون كتاب الجابري ما كان يمكن لطرابيشي أن ينضج. نضج طرابيشي في نقده لكتاب الجابري. فتحه بعمق على التراث العربي الإسلامي، بعد أن أمضى جزءا كبيرا من عمره مشغولا بالتراث الغربي الأوروبي.
وفّر كتاب الجابري لطرابيشي أول محاولة عربية حديثة لفهم الفكر العربي، وللنظر إليه في كليته. أي باعتبار سؤاله سؤالا واحدا موحدا. هذا رغم بساطة مخطط الكتاب الذي بني على تعاكس المشرق مع المغرب.
احتفظ طرابيشي بالهيكل العام لكتاب الجابري، ودحض محتواه. وخرج بتصور مختلف لتاريخ الفكر العربي والعقل العربي. عليه، فقد أثمر كتاب الجابري ثمرته عبر طرابيشي. بذا لا يمكن تقييم الجابري من دون طرابيشي. فوق ذلك، فلا مجال الآن للحديث عن تاريخ الفكر العربي إلا انطلاقا من الجابري وطرابيشي. أي انطلاقا من وحدة هذا الفكر. دحض طرابيش "نقد العقل العربي"، لكنه ولد هو ذاته من هذا الكتاب. فقد صار مفكرا مختلفا بعد تورطه مع الجابري.