العرب - الحالة العامة التي وصلت إليها الأزمة السورية، تقول إنها أصبحت مفتوحة على التسليم بمبدأ التقسيم، وبصرف النظر عن شكله ومضمونه، فإن هناك دولا تؤيده وتسعى إليه، باعتباره المنفذ الوحيد المتاح للتسوية، وأخرى ترفضه وتقاومه، لأنه يضر بمصالحها الاستراتيجية، ويفتح الباب لتكراره في دول مجاورة.
بطبيعة الحال، كل فريق له منطقه، الذي نستطيع تلمسه من خلال الجانب الذي يقف فيه والقناعات التي تحكمه، وقد جرت خلال الأيام الماضية مياه كثيرة في هذا النهر، ومنذ أن لوح أكراد سوريا بخيار الفيدرالية، بدأت موجات القبول والتحفظ والرفض تتوالى.
لكن ما لفت الانتباه ضمن جملة كبيرة من ردود الأفعال، هو الموقف المصري برفضه الحاسم لتقسيم سوريا، والتمسك بوحدة هذه الدولة بصورتها التقليدية، الأمر الذي اعتبره كثيرون بمثابة إعلان مباشر وصريح على وقوف القاهرة بجانب نظام بشار الأسد، وخروج عن المألوف، حيث درج النظام المصري على إعلان ذلك بطريقة مواربة، وحرص على الاحتفاظ بهامش مناورة، حفاظا على تحالفه مع دول تقف في معسكر مقابل.
كثيرون قرأوا بيان الخارجية المصرية ضد مسألة التقسيم، في السياق العام لميل الكفة لصالح نظام بشار، بفعل الدور الذي لعبته القوات الروسية، قبل أن تعلن موسكو سحب جزء كبير منها، وهناك من قرأه على أنه استباق لأمور بدأ فعلا التباحث بشأنها تتعلق بالتوافق حول الفيدرالية في سوريا، والقاهرة أرادت تبرئة ساحتها وتحذير الدول الداعمة من مخاطرها.
لكن القراءة الدقيقة تشي بحجم الخطر الذي تستشعره مصر عقب ترسيم هذه الخطوة على الأرض، لأنها سوف تكون لها انعكاسات استراتيجية كبيرة على الأمن القومي المصري، وإمكانية تغيير العقيدة العسكرية للجيش، التي بدت صامدة في حرب أكتوبر 1973، وإن تباينت الحسابات بعدها بين القاهرة ودمشق، إلا أن مسمى مصر للجيش الأول في سوريا لا يزال مستمرا حتى الآن.
خيار التقسيم يقود عمليا إلى خروج سوريا من جبهة المواجهة مع إسرائيل، حتى وإن بقيت صامتة لسنوات طويلة، ولم تشتبك رسميا، مع أن جزءا مهما من أراضيها (الجولان) مازال محتلا.
مهما تغيرت الأنظمة في مصر، وتبدلت أحوالها السياسية وتباينت رؤاها الأمنية، غير أن مؤسستها العسكرية تعتبر إسرائيل العدو الأول لها، كما أن مصر لديها الجيشان الثاني والثالث، وهما من أكبر الجيوش في المنطقة، وتتعامل منذ الوحدة مع سوريا عام 1958 على أن الجيش السوري (الأول) هو خط الدفاع المحوري عن مصر، الأمر الذي أثبتته الغزوات التي جاءت إليها عبر قرون طويلة.
إذا دخلت سوريا خيار التقسيم الفعلي تحت أي مسمى سياسي، فإن تقديرات الجيش السوري سوف تتغير حيال الصراعات الخارجية التي تجابهه، وغالبا سوف يتراجع الخطر الإسرائيلي بالنسبة إلى بعض المناطق، على الأقل في السنوات الأولى، كما أن الولاءات قد تدخل عليها تعديلات جوهرية، حسب الجهة أو الجهات الداعمة لكل منطقة.
هكذا مرجح أن تواجه مصر فراغا استراتيجيا كبيرا في الشمال، يفرض عليها تغييرا في حساباتها، لأن خروج الجيش الأول في سوريا من المعادلة العسكرية، يتطلب استعدادات كبيرة، وإجراءات حاسمة حتى لا تبدو الجبهة المصرية مكشوفة أمام إسرائيل.
ليس بالضرورة أن تجعلها مغرية للعدوان عليها أو تفضي إليه، لكن ربما تكون مدخلا للضغط من أجل تنفيذ سيناريوهات رفضتها مصر من قبل، كأن تتم تهيئة الأجواء لتفعيل سيناريو اقتطاع جزء من سيناء لتمدد الشعب الفلسطيني، وإخلاء الضفة الغربية تماما لتكون مجالا للمزيد من التوسع الإسرائيلي، وفقا لآليات سياسية قد تجد من يتبناها ويدافع عنها من قوى إقليمية ودولية، وقبولها كأمر واقع، وكمدخل لحل أزمة مستعصية.
المؤكد أن قبول مصر استئناف الحوار مع حركة حماس الفلسطينية مؤخرا، وعدم وضع العراقيل أمامها، عقب اتهامها بالتورط في عملية اغتيال النائب العام المصري السابق هشام بركات، كان ضمن محاولة سد المنافذ والذرائع القادمة، التي ربما تساهم في تكريس هذا الاتجاه، فأن تتجه القاهرة للتصالح أو حتى الحوار مع حماس في الوقت الراهن، فهذا معناه أن هناك تقديرا استراتيجيا فائقا دفعها إلى الصفح، وغض الطرف عن الاتهامات والمناوشات السابقة.
كما أن الإسراع من رفع الجاهزية المسلحة المصرية خلال الأشهر الماضية، وامتلاك طائرات وفرقاطات متقدمة، يصب في تحسب مواجهة خيارات حرجة من هذا النوع، وتسليم بخروج الجيش الأول (السوري) من الصراع نهائيا، في وقت تموج فيه المنطقة بأزمات لا أحد يستطيع التنبؤ بوجهتها، وهذه الأسلحة في إجمالها تبدو وسيلة ردع مطلوبة لقطع الطريق على من يريدون إضعاف الجيش المصري، والاستفادة من انخراطه في حربه الطويلة ضد العناصر الإرهابية.
لذلك كان الموقف المصري في السنوات الماضية، حريصا على الدفاع عن الدولة السورية، وعدم الالتفات إلى الاتهامات التي وجهت للقاهرة، تصريحا أو تلميحا، بالتواطؤ مع نظام بشار الأسد، والرفض القاطع لرحيله دون إيجاد البديل المناسب، خوفا من أن تصل سوريا إلى شبح التقسيم، الذي أصبح أقرب إليها من أي وقت مضى.
الوصول إلى هذه النتيجة سوف يكون مكلفا بالنسبة إلى مصر، والأمن القومي العربي عموما، وتتضاعف التكلفة وسط السيولة السائدة على الجبهة الغربية مع ليبيا، والتي غير مستبعد أن تواجه أقاليمها سيناريو التقسيم أيضا، ويلجأ كل منها إلى دولة أو أكثر للاحتماء بها.
من هنا تتعدد الانتماءات، وتتحول الأزمة إلى سلسلة من الأزمات الضاغطة على الدولة المصرية، من الشمال والغرب، وربما من الجنوب، أي من ناحية السودان.