الحياة - يُحكى أن الرئيس الأميركي الراحل دوايت أيزنهاور كان يقيم في ريف لندن إبان الحرب العالمية الثانية، ليمارس عمله كقائد لقوات التحالف. وكان عنده سائق اسمه جورج الذي ما إن يصل إلى قريته لقضاء إجازته الأسبوعية، حتى يتجمع الأهالي حوله ويسألونه بقلق: هل تكلم الجنرال؟ هل قال لك متى ستنتهي الحرب؟ وفي كل أسبوع يتكرر المشهد ويُعاد السؤال المحير الملح على مسامعه... إلى أن وصل يوماً إلى قريته وهو في قمة الانشراح، فتفاءل الأهالي وسألوه: هل تكلم الجنرال؟ فرد بكل تفاخر: نعم، أخيراً تكلم الجنرال! فرد الأهالي: ماذا قال لك؟ أخبرنا بسرعة. فأجاب: التفت إلي وسألني: متى ستنتهي الحرب يا جورج؟
حال جورج كحالنا جميعاً، ففي كل مجلس يتكرر السؤال ذاته: متى ستنتهي الحروب في الدول العربية، بخاصة في سورية التي عانت الأمرين منها؟
خمس سنوات عجاف من الحروب والقتل والعناد وتدمير البشر والحجر، والمرء يحار في العثور على جواب، لأن الذي يعرف لا يفصح، والذي يقرر لا قدرة له على التنفيذ، والذي يحرض لا يريد أن تتوقف المأساة. أما الذي يثور ويقاتل، فإنه لم يعد يتحكم بميادين القتال لأنها عجت بالتناقضات.
خمس سنوات عجاف مرّ كل يوم فيها وكأنه عام ثقيل من المآسي والمذابح، فيما يكمن المأزق الكبير في عدم الرد على أسئلة المحزونين والضحايا والمشردين، وهم يمثلون الأكثرية الصامتة. وحتى لو تم تأكيد حتمية إنهاء الحرب، فإن الأحوال الراهنة قلبت النظريات وعقدت الحلول، كما أن توقف الحرب لا يعني عودة الأمور إلى نصابها، بل لا يشكل سوى بداية طريق طويل وشاق يحتاج عشرات السنين من الجهد والتضحيات.
فقد خلفت سنوات الحروب أزمات وسكاكين غرزت في قلب الأمة واجتثت جذور الأوطان ووحدتها: دمار وتخريب وأحقاد وتطرف وإرهاب وقتل مئات الآلاف وإصابة عدد مماثل بجروح وإعاقة وأمراض نفسية وتدمير مدن وقرى وتشريد الملايين. فإلى جانب الخسائر المادية والبشرية الفادحة، هناك خسائر ومآس اجتماعية وإنسانية وعائلية، من بينها فقدان أثر الآلاف وترك زوجاتهم وعائلاتهم من دون أوراق رسمية تثبت الوفاة والملكية، خصوصاً بعد شيوع حالات التزوير في المستندات وانتشار عادات ونوازع فرضتها ظروف الحرب وذل الحاجة.
أما المعضلة الكبرى، فتتمثل بواقع خطير، ستكون له نتائج مدمرة، نجم عن ضياع أجيال بكاملها في دهاليز القهر والتسول والمرض والتعرض للاعتداءات والإهانات، وحرمانهم من الرعاية والتعليم.
هذا في المشهد العام. أما بالنسبة إلى الواقع السياسي والعسكري، فمن المنطقي التفريق بين تجارب «الربيع العربي» بين مختلف الدول العربية بسبب الانحراف عن أهدافه الشرعية، ليتحول بكل آلامه وتشوّهاته إلى خريف تتساقط فيه أوراق الأوطان.
فمصر عاشت نشوة «ثورة الميادين» لأيام قليلة تمّ بعدها إسقاط الرئيس حسني مبارك ونظامه من دون خسائر تذكر، ثم ركب «الإخوان المسلمون» الموجة لينحسر بريق الحراك الشعبي ويتوارى شباب الثورة مع براءتهم، فكانت النتيجة قيام «حكم الإخوان» برئاسة محمد مرسي. لكن الفشل تجسد في تعطش السلطة والهيمنة وعدم توافر برامج مجدية لمعالجة الأزمات الكبرى وإقامة حكم حضاري، ما أدى إلى سقوط التجربة بعد عام واحد لتقوم «ثورة يونيو» (حزيران)، وتحمل إلى الرئاسة المشير عبدالفتاح السيسي وتعود الأمور إلى المربع الأول سياسياً واقتصادياً واجتماعياً مع جهود مضنية لإيجاد حلول ناجعة.
وفي الحالات الثلاث، كان الجيش هو المنقذ في رفضه قمع الثورات، ثم في إسقاط حكم «الإخوان» وحماية النظام الجديد ومنع قيام معارضة قادرة على إعادة الكرة!
أما في اليمن، فالمسألة أكثر تعقيداً لأن العوامل الخارجية والتناقضات الداخلية لعبت دوراً في إسقاط «الربيع اليمني»، رغم التمكن من إسقاط الرئيس علي عبدالله صالح والدخول في حرب طاحنة تمثلت بدعم تحالف «عاصفة الحزم» الشرعية بقيادة السعودية ومشاركة عربية وإسلامية.
وجاء هذا التحرك بعد نجاح تحالف الحوثيين المدعومين من إيران والرئيس المخلوع الذي يملك أوراق قوة عسكرية ومالية في إسقاط التسوية الخليجية الدولية، وسط تباين في الآراء بين من يعتقد أن التحالف تأخر في منع التغلغل الإيراني ومن يؤكد أن تحركه جاء في الوقت المناسب لمنع سقوط اليمن نهائياً في يد إيران، ما كان سيؤدي إلى تهديد أمن السعودية ودول الخليج والأمن القومي العربي. وهناك الآن بارقة أمل بوقف الحرب المدمرة ووضع حد للمأساة اليمنية، بعدما اقتنع الحوثيون بأن حربهم كانت عبثية وأن هناك استحالة لتمكنهم من السيطرة على اليمن وموقعه الاستراتيجي ولجأوا إلى التفاوض سراً.
أما ليبيا، فكان ربيعها دموياً وعاصفاً بدأ بإسقاط معمر القذافي ونظامه وانحرف عن مساره ليتحول حروباً قبلية ومناطقية مدمرة واستغله «القاعدة» و «داعش» والميليشيات المختلفة للسيطرة على أجزاء من البلاد وتهديد وحدتها وإشاعة الخطر على دول الجوار العربي والأوروبي. وما زال العرض مستمراً حتى إشعار آخر رغم الاتفاق الهش على إقامة حكم ديموقراطي اتحادي، فيما يتسع نفوذ «الدواعش» وتلوح في الأفق بوادر تدخل دولي - أوروبي عسكري لوقف مده.
وتونس كانت الوحيدة التي عاشت ربيع «ثورة الياسمين» وانتعشت بشذاه موقتاً نتيجة التعقل والحكمة من جانب جميع الأطراف، وبينها «حركة النهضة» الإسلامية، وانتصرت الديموقراطية بحكم وعي الشعب التونسي للأخطار القائمة، إلا أن تزايد التهديدات الإرهابية والهجمات المتكررة من جانب «دواعش» ليبيا كاد أن يجهض هذه التجربة الرائدة.
وزاد الطين بلة تزايد حالات الانشقاق والخلافات التي تهدد مسيرة التآلف والوحدة، إضافة إلى عدم نجاح حزب «نداء تونس» الحاكم في استيعاب الفئات الأخرى، بخاصة أجيال الشباب العاطلين من العمل، وعدم التمكن من تحقيق إنجازات تذكر بسبب الخلافات بين قيادات الحزب.
تبقى القضية الأخطر والأشد إيلاماً، وهي الحرب السورية التي أكملت عامها الخامس مخلفة نتائج رهيبة على مختلف الصعد، وتوقفت الآن عند مفترق طرق بين الدمار التام أو التقسيم المدمر للجميع. وتكاد الغيوم السوداء تخيم على سماء سورية، إلا أن الأمل، كل الأمل، بأن تنتصر الحكمة ويتوحد الجميع خلف شعار واحد وهو: كفى.
ورغم التشاؤم السائد، برزت في الأفق إشارتان إيجابيتان: الأولى تمثلت بالتزام أطراف الحرب بالهدنة، وفق ما أعلن، ما يثبت أن في الإمكان إيجاد وقف إطلاق نار شامل وكامل وطويل ليتاح المجال أمام حوار بناء وصولاً إلى سلام ينقذ البلاد والعباد.
أما الإشارة الثانية، فتمثلت بالإجماع الوطني والعربي على وحدة الأراضي السورية ورفض التقسيم بكل أشكاله لإقامة دويلات عرقية وطائفية ومذهبية، بما فيه الفيديرالية التي تروج لها روسيا بالاتفاق مع الولايات المتحدة، وهما تتسابقان على إقامة القواعد وتبادل الغنائم. وساهم في تقليل فرص المؤامرة اتفاق إيران وتركيا في شكل قاطع على رفض مشروع التقسيم والتهديد بالتصدي له، بخاصة بالنسبة إلى سعي الأكراد إلى إقامة دولتهم المستقلة بدعم مشبوه من الدول الكبرى، لأن الخطر سيمتد إلى الدولتين الإقليميتين وقومياتهما المتعددة، وفي مقدمها الأكراد.
وبكل أسف، فإن «الربيع السوري» بدأ سلمياً لكنه تحول بعد الوقوع في فخ «العسكرة» حرباً عبثية استخدمت فيها كل وسائل العنف والوحشية، ولم يبق فريق سوري أو عربي أو إقليمي أو دولي إلا وغرز إصبعه في جراح الوطن النازف.
ونعود إلى السؤال الأول المطروح وهو: متى ستنتهي هذه الحرب يا جورج؟ والرد المنطقي ينطلق من مؤشرات كثيرة ترجح كفة التسوية، أو السلام المفروض باتفاق أميركي - روسي، خصوصاً بعد إعلان بدء انسحاب القوات الروسية تدريجاً من سورية ضمن الضغوط المتزايدة على جميع الأطراف والقناعة بعدم جدوى المضي في القتال في ظل التوازنات الدولية والإقليمية والمحلية. ولعل مفاجأة الالتزام بالهدنة في شكل شبه تام، حتى من جانب الأطراف المستثناة منها، مثل «داعش» و «جبهة النصرة»، تشكل تجربة مشجعة لتوسيع رقعتها إلى وقف تام، ومن ثم المضي في فرض بنود التسوية.
ومع هذا، فإن المنطق يفرض علينا الحذر والجزم بأن الطريق مزروع بحقول الألغام، حتى لو فرضنا جدلاً أن الاتفاق تم على وقف الحرب. فالشياطين تتسلل إلى التفاصيل، ووجود «داعش» وأخواته وعدم اجتثاث الإرهاب وجذور دولته في سورية والعراق سيوديان بأي اتفاق ويشيعان مزيداً من أجواء العنف.
وهناك أسئلة كثيرة منبثقة عن السؤال الأول، مثل تشكيلة الهيئة الانتقالية ودور الرئيس الذي تعتبره دمشق «خطاً أحمر»، والإشراف على الأمن وضمان نزاهة الانتخابات واحتمالات دخول قوات دولية وإعادة ملايين اللاجئين والنازحين إلى ديارهم وكيفية مشاركتهم في الانتخابات، وهم يمثلون نصف الشعب السوري.
من يعرف الإجابة على هذه الأسئلة فليتفضل بالرد، علماً أن من في يده الحل والربط ليس العرب بل «الوصاية» الأميركية - الروسية ورديفتها «الوصاية» الإيرانية - التركية. فالمؤامرة أكبر من «الربيع» وكل الفصول، وما علينا، كعادتنا، إلا الجلوس على مقاعد المتفرجين وانتظار الأوصياء ليقرروا مصيرنا بعد تشييع جثة «سايكس - بيكو» التي لم نعرف محاسنها السيئة إلا بعدما بشرونا بما هو أسوأ منها، أي تقسيم المقسم لتبقى إسرائيل الكيان الآمر الناهي.
انتظار طويل ومقلق لأن الذي يعرف لا يريدنا أن نعرف، فما نحن، بكل أسف، إلا «ضحايا» مستسلمين لمصير الذبح وتوزيع الحصص من لحمنا الحي. وما علينا إلا أن نردد صبح مساء: لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.