العرب - شكلت ممارسات الحركات الجهادية المنافية للمفاهيم الإنسانية حالة من الضياع في وصف وتحديد مصدر التشريع الذي تتبعه، فردّها الكثيرون إلى الجاهلية وعصور ما قبل الإسلام لما تمثله هذه المرحلة من سمات محددة ناتجة عن حالة القطيعة مع ذلك التاريخ. مع ظهور الإسلام أطلق مصطلح الجاهلية للدلالة على الفترة التي سبقته وربطها بالجهل من ناحية معرفة الدعوة الدينية الإسلامية، وحقيقة الألوهية وخصائصها، وليس بالجهل المطلق، فتلك الحقبة شهدت تنوعا فكريا وحضاريا في المعتقدات وفي تفسير الحياة المادية والماورائية نتيجة التأثر والتأثير المتبادل بين الشعوب، وهو ما تثبته الآثار والمخلّفات الأدبية في شبه الجزيرة العربية.
ركزت المؤلفات التاريخية والدراسات الاستشراقية التي عنيت بتاريخ شبه الجزيرة العربية على فترة وجيزة ضمن القرنين الخامس والسادس للميلاد المتصلة بظهور الإسلام، وكأن الفترات السابقة أو الأبعد تاريخيا هي فترات عابرة لا تتعدى البداوة، وهذا يمثل انقطاعا تاريخيا تعسفيا يعود بالدرجة الأولى إلى تحديد معظم المؤرخين ظهور الدعوة الإسلامية نقطة انطلاقهم في البحث، وجعل ما جاء به الإسلام من تعاليم وعقائد ومفاهيم وشرائع بداية لتاريخ جديد كليا لا صلة له بماضي العرب السابق للإسلام، وما عزز ذلك انتشار اللغة والحضارة العربية وتذويب جميع الحضارات واللغات السابقة في هذه الحضارة الفتية.
وما تبعها من اشتغال المؤرخين بتأريخ الصراعات القومية والمذهبية والتي أظهرت حالة الانحياز الأيديولوجي في النظر إلى التاريخ وأحداثه ومحدداته وغياب التوثيق التاريخي للعصور السابقة، لتأتي حالة الاغتراب عن التاريخ والتراث الناتجة عن الانبهار العربي بالثقافة الغربية وظاهرة الحداثة وما بعد الحداثة والتي غيّبت بشكل ما محاولات الإحياء والتجديد ومطابقة الوعي التاريخي بدءا من تاريخ الجاهلية وصولا إلى تاريخ الدول الإسلامية المتعاقبة. حافظت القطيعة على ديمومتها رغم ما أثبتته الاكتشافات الأثرية والتاريخية الحديثة، ورغم تطور علم الأديان المقارن وإثباته عمق التأثر الروحي والفكري والديني بين الإسلام وأديان شعوب المنطقة بمراحلها المتمازجة.
فبالرغم من كون الوثنية هي الشكل الديني الأكثر بروزا في جزيرة العرب، إلا أن المعتقدات الوافدة التي حملها الإغريق ومن ثم الرومان الذين فرضوا سيطرتهم العسكرية والسياسية على المنطقة أنتجت تمازجا بين المعتقدات كان له أثره في ظهور المعتقدات الغنوصية في شبه الجزيرة العربية، وفي تبلور أديان متكاملة كالصابئة المندائية المستمرة حتى الآن في العراق. وقد أدى التعايش الديني إلى انتشار أفكار أخرى وفدت من بلاد الهند وفارس من خلال المبشّرين كالزردشتية والمانوية، وقد استمرت أفكارهم وعقائدهم (القيامة والبعث والحساب، والصلاة والصيام…) في معتقدات شعوب المنطقة لاحقا، إضافة إلى الديانة اليهودية وانتشارها في قبائل وبطون عربية خارج مكة.
كما شكّلت دعوات التبشير المسيحية أحزابا وفرقا، وما تلاها من عبادات توحيدية ظهرت بعد الميلاد، كالأحناف الزهّاد الذين نبذوا الأصنام وتمسكوا بالديانة الإبراهيمية ومارسوا شعائرها، هذه الديانات التي سادت قبل الإسلام كان لها أثرها في الإسلام وفي الحضارة الإسلامية كحاملة لكافة الحضارات السابقة.
صار ضروريا إنصاف تاريخنا العربي ككل ورفع المظلومية عنه وإعادة كتابته بحقيقته. إذ لا نستطيع طمس الحضارات السالفة والتراث الديني المتنوع، وإنكار حالة التعايش التي سادت التاريخ القديم، ولا يمكننا إلصاق صفة الجاهلية بارتكابات الحركات الدينية الجهادية التي تثبت كرهها للتنوع والاختلاف.