العرب - رواية “أعمدة الأرض” للإنكليزي كين فوليت، نص مرعب، ليس لأنه يدور في عوالم الحرب والعنف الديني في إنكلترا القرن الثاني عشر، ولكن لأن الرواية تمتد في أكثر من ألف صفحة، وتتضمن العشرات من الأسماء والتفاصيل، نص تتحول فيه القراءة إلى سعي إلى تجاوز عتبة الخمسمئة صفحة الأولى، والنزول تدريجيا نحو الفصول النهائية.
والشيء المؤكد أنك ستتخيل نفسك، وأنت تقلب صفحاتها الطوال، أمام امتحان الاستمرار في المطالعة أو التوقف، وحين تنتهي، سيكون بإمكانك أن تتحدث عن موضوعات عامة في الرواية؛ من قبيل بناء كاتيدرائية كامبردج على النمط القوطي الفرنسي، التي شيدت في غمار سجال ديني وسياسي كبير، لكن الأسماء والأمكنة والمشاهد تتوه في السديم، وتتلاشى من الذاكرة الضاجة بالقراءات، فيخيل لك، أنه كان بإمكانك الاكتفاء بتلك الفقرة الطويلة التي تتحدث عن غرق السفينة البيضاء الحاملة لوريث العرش البريطاني، المطبوعة على ظهر الغلاف للحديث عن تلك الرواية.
فالحديث عن الكتب، موهبة لا صلة لها بإدمان القراءة، ولا بدقتها وعمقها وتكرارها، إنه فقه متصل بالقدرة على الاختزال وتخيل الروابط، واستخدام الفقرات المقتطفة من صفحات متفرقة، واستدعاء سلسلة من الروابط الذهنية التي قد تنطلق من الرواية وتنتهي في التاريخ والذهنيات، من هنا قد نجد عددا كبيرا من المتحدثين المهرة عن الروايات والكتب مجرد كذابين كبارا، يتقنون فن التلفيق وحفظ العناوين والأسماء، مع قدرة بارعة على التنقل بين النصوص، ينطلقون من تجربة طويلة مع القراءة تعلمهم أن مراجعة الكتب حيلة ومهارة، وهي بالضبط تلك التي تتحول إلى كفاءة في استثارة المستمعين، وهكذا نتحدث عن الصعود والقفز والوقوف والعدو والمشي في القراءة، ما دمنا نطوي مسافات قد تطول أحيانا أكثر من اللازم.
لا جرم إذن أن نصادف العشرات من المتحدثين العتاة عن كتب لم يقرأوها، واستمعوا لمضامينها في برامج تلفزيونية، أو قرأوا عنها مقالات صحافية، أو حتى التقطوا بعض أفكارها من ثرثرات عابرة في مقهى، كما قد نقف على مراجعين بالغي السوء لكتب قتلوها حفظا ويسعون دوما لإثبات استظهارهم لمضامينها من الغلاف إلى الغلاف.
لهذا أجدني متعاطفا أحيانا مع أولائك الأكاديميين الحاذقين ممن يأتون لمناقشة أطاريح تقليدية لم يقرأوها، تمتد على المئات من الصفحات، انطلاقا من فقرتين أو ثلاث وقفوا عليها اتفاقا في صفحات متفرقة، وتجدهم يتوغلون في تحليلات لا يعوزها العمق والنباهة، أتعاطف معهم لأني أجدهم أكثر طرافة من آخرين يضيعون وقت المستمع في تتبع الأخطاء النحوية من أولى الصفحات إلى آخرها دون أن يقولوا شيئا مثيرا للاهتمام.