العرب - نحو عشرة آلاف ضحية بين قتيل وجريح ومعوق حصيلة تقريبية لخسائر قتال حزب الله في سوريا. أكثر من أربع سنوات من الاستنزاف والقتال دفاعا عن نظام بشار الأسد. تعددت الأهداف والخلاصة واحدة: إيران وميليشياتها، ومن بينها حزب الله، لا تريد أن تصدق أن مصير الأسد صار على طاولة أيّ حل. فيما شكلت الضربة التي وجهتها قوى المعارضة الإسلامية نهاية الأسبوع الماضي إلى النظام السوري وحليفه الإيراني في ريف حلب الجنوبي، مؤشرا على عجز النظام وحلفائه الإيرانيين عن حماية المساحات التي سيطروا عليها خلال الشهرين الماضيين. العشرات من القتلى سقطوا من بينهم مستشارون إيرانيون وعناصر من الميليشيات العراقية وعناصر من حزب الله.
رسالة ريف حلب الجنوبي حملت أكثر من معنى. منها أن النظام السوري وإيران عاجزان عـن التقدم العسكـري أو حتى حماية ما سيطرا عليه من دون غطاء جوي روسي. ولأن الصمت الروسي رافق هذه النكسة السورية - الإيرانية، يمكن القول إن الطرف الروسي غير مستاء ما دامت النتائج تؤول إلى تثبيت مرجعيته، وما دامت هذه النكسة سبيل النظام السوري وإيران للإقرار بأنهما لا يستطيعان الخروج عما يرسم في أروقة الكرملين والبيت الأبيض لمستقبل سوريا.
|
ولعل قيام جبهة النصرة بهذا الهجوم، المترافق مع صمت روسي وأميركي ولو بحدود الاستنكار اللفظي لهذا الهجوم العسكري، يكشف في الحدّ الأدنى أن المزيد من استنزاف النظام وإيران وميليشياتها لا يشكل انقلابا على مسار التسوية بمرجعية الدولتين الكبريين. لا سيما بعدما أقرّ الجميع بأن فرص انتصار عسكري لأي طرف غير واردة وليست ممكنة. وفي المعلومات أن روسيا، منذ أن أعلنت وقف عملياتها الجوية في سوريا، رفضت بشكل علني إجراء الانتخابات النيابية التي يستعد النظام السوري لإجرائها، معتبرة أن الانتخابات يجب أن تكون حصيلة التسوية السياسية. وقد نقل مساعد وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، قبل أسبوعين رسالة في هذا المضمون لإيران.
رسالة أكدت أن تعطيل الانتخابات الرئاسية في لبنان لم يعد مقبولا والمطلوب إجراؤها في سياق تعزيز مسار التسوية في سوريا. الموقف الإيراني، بحسب مصادر متابعة تؤكد أن بوغدانوف خرج من زيارته الإيرانية منزعجا، وهو من أبلغ المسؤولين الإيرانيين أن روسيا وجّهت رسائل إلى كل الدول المعنية بالأزمة السورية أنها تريد أن تلعب دورا في التسوية ولا تريد المضي في المواجهة العسكرية، وأنها تطلب عون الجميع على هذا الصعيد. في المقابل يخلص حزب الله، بعد كل الشعارات التي اعتمدها إلى طرف محكوم عليه بالهزيمة، سواء كان ذلك عبر استمرار استنزافه معنويا وسياسيا وبشريا وقانونيا، أو عبر أي تسوية سورية صار واضحا أن لا مكان لحزب الله فيها. وحتى إن بقي الأسد، وهو من المستبعدات، فإن من سيبقى هو من ترضى عليه أميركا وروسيا.
وفي الحالتين كل ما قيل عن الممانعة والمقاومة والجهاد المقدس أصبح أثرا بعد عين. بل انكشف المشهد على فضيحة سياسية وأخلاقية تتفوق في نتائجها السلبية على كل رصيد المقاومة لحزب الله. حزب الله الذي انكشف على هوية مذهبية أيديولوجية تحكمه العلاقة مع إيران دون سواها. فمجموعات وأفراد الممانعة، الذين استقدموا إلى سوريا، يقاتلون بعنوان شيعي. وليس من قضية تشدّ أواصرهم غير الانتماء المذهبي. لذا لم تأت المجموعات الشيعية العراقية إلى سوريا لتحرير الجولان من الاحتلال الإسرائيلي مثلا، ولم يأت الأفغان الشيعة أو الباكستانيين في سبيل الذود عن وحدة المسلمين ولا لتحرير بيت المقدس.
من دون تكلف وبعيدا عن محاولات تغليف الحرب الجارية بعناوين أخلاقية أو وطنية أو قومية، كل التعبئة الجارية في بيئة الممانعة، بإشراف الحرس الثوري الإيراني، تتم على إيقاع استنفار العصبية المذهبية والتخويف من “استهداف الشيعة”.
وإذا كانت القوى الكبرى، وعلى رأسها الإدارة الأميركية، هي من يريد فرز المجتمعات العربية إلى كيانات مذهبية، كما قال السيد حسن نصرالله يوم الأحد، فإن المشروع السياسي الديني، القائم على الدمج بين الانتماء المذهبي والمشروع السياسي، هو أفضل أدوات تحقيق مشاريع التقسيم على أساس مذهبي في المجتمعات المتعددة والمتنوعة. من هنا بدا أن مشروع المقاومة والعداء للشيطان الأكبر هو عنصر هامشي في لحمة الممانعة وأدواتها، إذا ما استحضرت الأيديولوجيا الدينية المذهبية. فالممانعة، التي بدت في بعض مراحلها كما لو تتجاوز في ترابطها وتماسكها معيار الانتماء الأيديولوجي المذهبي، انكشفت في أول امتحان جدي وافتضح أن العصب المذهبي وأيديولوجيته هما جوهر وجودها.
لواء القدس التابع للحرس الثوري الإيراني أسّس أشباهه في المنطقة العربية: تنظيمات إسلامية شيعية نابذة في بنيتها التنظيمية لكل ما هو غير شيعي، بل كل ما عدا الشيعي الذي يؤمن بولاية الفقيه. وهذا بحدّ ذاته أساس تشكيل لأطر تنظيمية عسكرية وسياسية مقتصرة على هوية مذهبية أيديولوجية ترفض أيّ هوية أخرى حتى لو كان صاحبها مسلما أو شيعيا خارج ولاية الفقيه.
بالضرورة هذه التشكيلات لا يمكن أن تكون عنصر توحيد في أيّ مجتمع أو دولة تتشكل في داخلها. هي في بنيتها الأيديـولوجية نابذة للتنوع الإسلامي في داخلها فكيف بالتنوع العربي. وهي تدمج العقيدة المذهبية بالمشروع السياسي، وهي تقوم على عقيدة أن الولي الفقيه الحاكم لإيران له سلطة الأمر والنهي في كل شؤون الحياة والسياسة، بما يجعـل أي سلطـة دستورية للدولة لا معنى لها إذا ما تعارضت مع أمر وليّ الفقيه ونهيه.
هذه الجماعات الأيديولوجية المذهبية، التي تشكل أذرع إيران في المنطقة العربية، تدرك أنها تخوض اليوم معركة نفوذ إيران في المنطقة، بعنوان شيعي وبتعبئة مذهبية لا تحتاج لإثبات. ليس من شيء فاعل ومؤثر في الحرب الجاريـة أكثر من التعبئة المذهبية. وما شعارات المقاومة أو قتال أميركا إلا محاولة للتغطية على الفضيحة الأخلاقية التي تبرّرُ تغطية جرائم نظام الأسد.
وهذه المجموعات، في بنيتها وطبيعتها الأيديولوجية، عاجزة عن أن تقدم مشروع نهضة، إن وطنية أو على المستوى العربي أو الإسلامي. وهي مشاريع منسجمة، بالكامل مع مشاريع التجزئة في بعديها المذهبي والطائفي. بهذا المعنى فإن تنظيم داعش لن يضعف، وتنظيم القاعدة لن يضمر. ثمة إرادة أميركية قال عنها السيد حسن نصرالله إنها ليست مستعجلة للقضاء على داعش، لكنه تناسى أن سلاح أيديولوجيا ولاية الفقيه المذهبية في العراق وسوريا هو بالضرورة عنصر قوة ودعم بل مبرر وجود للقاعدة وأخواتها.