الحياة - 9 أبريل 2003 يوم احتلال العراق، يرتبط بذاكرتي دائما بتاريخ 4 سبتمبر 1980 يوم بدء العدوان الإيراني على العراق وبينهما تاريخ فاصل لمبرر اجتياحات ومتغيرات وبناء مشروع عالم مختلف أنتجه يوم 11 سبتمبر 2001 وتفجير برجي مركز التجارة الدولي في نيويورك، كأن العراق ومن بعده العرب أصبحوا “سندويش” بين فكي أميركا وإيران. من حقنا كعراقيين وعرب أن نعيد قراءة المشهد وتواتر وقائعه من زوايا متعددة بعد 13 عاما على الغزو الأميركي وحجم الإبادات والجرائم ضدنا في مسلسل شرير، أدواته مجموعة عملاء دخلت من الأبواب الأمامية للمخابرات الأميركية والحرس الثوري الإيراني، وخرجت علينا كالديدان من الأبواب الخلفية لتحتل كرادة مريم في بغداد لتطلق عليها اسم “المنطقة الخضراء” وتتمترس بها.
استقبلنا نحن العرب الرئيس الأميركي باراك أوباما بوردة بيضاء، وبعد “السلام عليكم” التي بدأ بها خطابه في جامعة القاهرة حييناه بأحسن منها، لكنها أميركا وإدارتها المستقرة على الرأسمال، ورمالها المتحركة ممثلة برؤسائها الجمهوريين أو الديمقراطيين، المحاطين عادة بمخاوف اليهود الصهاينة ودورهم الحاسم في الانتخابات الرئاسية، ولذلك نلاحظ في هذه الفترة سباق المرشحين من الحزبين لكسب ودهم وتعاطفهم.
الخاتمة في بداية السنة 14 من الاحتلال الأميركي للعراق ومعطيات تلك الأعوام مختصرها الإشارة إلى أن حاضرنا مكبل بعدم البراءة وما يشاع عن أخطاء أو قصور في المعلومات المرتبطة بمفردة “الاستخبارية” وما استخدم منها كذرائع روجها الإعلام، ثم انسلت إلى جلسات مجلس الأمن وبموجبها تم إيداع العراق إلى المجهول. أكاذيب متعمّدة واكتشاف جورج بوش واعترافه بأن غزو العراق كان مبنيا على معلومات غير دقيقة، أيضا مخطط له في توقيته، واعتذاره محاولة لتمرير الشكل الأميركي الراقص على حبال السياسة ومصير الأمم والشعوب، ثم كالعادة لا بد من قفلة أميركية هوليوودية وابتسامة عريضة: لكننا كنا محقين في إزالة صدام حسين.
لهذه الأحقية الأميركية كان الغزو بمسوغات ظاهرية، باطنها وأسبابها مدروسان وأُعد لهما في نفق تراكم فيه غبار الماضي واستشعار مخاطر حقيقية مجربة بإقدام صدام حسين على تنفيذ وعيده عام 1991 عندما أصدر أوامره بإطلاق صواريخ بعيدة المدى دكت إسرائيل بالرغم من سياسة النأي بالنفس لحكومة الكيان الصهيوني بناء على طلب من قوات التحالف بقيادة أميركا.
بَعَثَ التدمير الشامل للبنى التحتية والاقتصادية للعراق رسالة تطمين إلى إسرائيل مفادها أن الرد الأميركي يفوق حتى متخيل طموحات إسرائيل في الرد.
نترك كل أسباب الاحتلال المعروفة، من غضب الشركات الاحتكارية للنفط وردود أفعالها تجاه التأميم، وصولا إلى دحر العدوان الإيراني ومشروعه الذي تأجل بدماء مليون شاب عراقي لإيقاف الاحتلال الفارسي للعراق ولأمة العرب ونياته الطائفية، التي لم تعد مجرد نيات إنما حقيقة ماثلة في نزيف الدم والإبادة وضياع المدن ورسم سيناريوهات الكراهية بين أبناء الشعب الواحد. نعود إلى سجن أبوغريب وفضيحته المسربة من قبل جنود الاحتلال أنفسهم، وأروي لكم ما نقله صديقي المقرب، السجين الذي يبدو في الصورة الشهيرة للمجندة الأميركية، ليندي إنغلاند، وهي تضع حبلا حول رقبته وتسحبه عاريا على الأرض.
كنت أعمل مع صديقي سجين أبوغريب قبل الاحتلال في مكتب صحافي لسنوات، وبعد الاحتلال ولأنه كما نحن جميعا نتلقف المستقبل كالأحلام، كانت الديمقراطية تعني الحرية وأفقها المفتوح، ولأنه أيضا يعتز بنفسه كصحافي ومواطن، أصدر مع بدايات سنة الاحتلال الأولى منشورا من صفحات قليلة بحجم مجلة ختمها في صفحتها الأخيرة برسوم كاريكاتورية تظهر رأس بوش بأجساد حيوانية، وشخصيا نبهته إلى أن ردة الفعل ربما تكون “غير ديمقراطية”.
بعد مدة قصيرة حاله حال الصحافيين الآخرين الذين كان عليهم الحصول على هويات خاصة من المكتب الإعلامي لقوات الاحتلال، ليتسنى لهم حضور المؤتمرات الصحافية وتغطية النشاطات المختلفة في المنطقة الخضراء، وعند دخوله استدعي من قبل شخصية عراقية حضرت مع الاحتلال لإدارة الإعلام العراقي. في الاستعلامات حددوا له موعدا في اليوم التالي للقاء عمل، وعندما حان الموعد وحال وصوله، طلب منه اثنان من القوات الأميركية التفضل معهما إلى مكتب “الإعلامي” العراقي، لكنهما أقحماه في غرفة عارية من الأثاث وأطلقا عليه كلابا بوليسية حاصرته في زاوية وبدأت في تمزيق ملابسه وخدش جسده برعب مفرط.
لتعذيبه في سجن أبوغريب مع السجناء الآخرين تفاصيل كثيرة معيبة ومخجلة ولأغراض اللياقة الإنسانية لا أتناولها، لكن ما أتوقف عنده، أن كل الانتهاكات كانت تجري على وقع سماع أغنية “بابيلون” لفرقة بوني أم، المعروفة في السبعينات، ولم يكن يدرك السجناء علاقة هذه الأغنية بتعذيبهم، ولمن لا يعرف جذور كلمات الأغنية وسبب انتشارها الواسع في كل أنحاء العالم، فإن نصها جزء من المزمور 137 وفي المقدمة “على ضفاف بابل، حيث جلسنا وبكينا عندما تذكرنا صهيون”، والمعنى واضح في رغبة الانتقام من أبناء بابل، أبناء العراق ونبوخذ نصر الذين يجب أن يتحملوا أوزار السبي البابلي الذي جرت أحداثه عام 597 ق.م. ولنا أن نذكر بأسباب الاحتلال ومن شارك فيه وأحزمة التاريخ الناقلة للتحريض على العدوان وتجاوز الأعراف المعاصرة وتدمير أرض بابل عندما سمحت لهم الفرصة لغزوها وتدميرها.
في الثمانينات رفعت القيادة العراقية شعارها “من نبوخذ نصر إلى صدام حسين بابل تنهض من جديد”، وكانت لهذا المغزى في مضمونه إشكالية على طاولة الدولة العبرية، وأعاد إلى الأذهان التوجه إلى استعادة العراق لتاريخه وإيحائه بالإصرار على تحرير فلسطين من الصهاينة على يد نبوخذ نصر جديد لن يكتفي إلا بسبي بابلي متكرر.
صدام حسين الرئيس العراقي أقدم على نبش أساسات المدينة التاريخية ونقش اسمه على الآلاف من الطابوق المفخور ليرافق نبوخذ نصر في رحلته عبر الزمن، ولهذا الغرض اشتغل العشرات أو المئات من طلاب معهد التراث في بغداد وأساتذة مهرة من الحرفيين على إنجاز العمل مع آثاريين معروفين، مما أثار منظمة اليونسكو وأخرجت مدينة بابل من قائمة الآثار العالمية، أما أميركا واللوبي الصهيوني فيها وإسرائيل كانوا يحشدون لإخراج العراق من تاريخه ومن العالم كدولة، ولهذا تحدث جورج بوش الابن عن حقهم في احتلال العراق للخلاص من صدام حسين أو نبوخذ نصر. واستكمل الاحتلال الأميركي وخلفياته الصهيونية حلقات إرادته وقراره المسبق باحتلال العراق عندما وضعوا أحد أكبر قواعدهم العسكرية في آثار مدينة بابل، وتظل تلك الفترة مليئة بالأسرار والغموض والسرقات وتحطيم شارع الموكب للملك البابلي بسرفات دباباتهم.
إسرائيل كما نراها مطمئنة لأن مشروعها الاستيطاني وحلمها القديم بتدمير أرض بابل تحقق منه الكثير باحتلال العراق وإطلاق المشروع الفارسي لتفتيت العروبة والمنطقة، الذي خدم إسرائيل وتفوق على أضغاث أحلامها، محققا لها تخادما استراتيجيا نلمسه في تدمير وعصف الكراهية بالنموذج الطائفي لإيران.