العرب- ربما يثير عنوان المقال التباسا يجب إيضاحه. الشق الأول لا ينفي حسن النية عن الثورات وصانعيها؛ فدونها تكون الثورة عملا سيء النية، سطوا يدبره وينفذه دهاة محتالون، ويسم الاحتيال مدعي مناصرة الثورات، ممن يكرهون كلمة “الثورة” كراهية التحريم إذا مس المصطلح بلادهم، ولا أدل على ذلك من صراخ فضائيات محميات أميركية في الخليج بنصرة الثورات، في حين يكون التلميح بانتقاد سياسات أمير سابق أو حالي مغامرة تنتهي بصاحبها إلى السجن. أما الشق الثاني في عنوان المقال فهو تذكير بأن كلمتي “تغيير ـ حرية” أول ما نطق بهما الغاضبون يوم 25 يناير 2011، ورغم وضوح ذلك الشعار – العنوان، فإن الثورة ضلت الوصول إلى العنوان الغاية التي من أجلها ضحى الشهداء.
يعيدنا هذا “الضلال” أو التيه إلى مقولة لينين “دون النظرية الثورية لا يمكن أن تكون هناك حركة ثورية”، فالنظرية تغذي الوعي اللازم للإنجاز الثوري، ولكننا في لحظة السكرة تنازلنا عن هذا الوعي، وفرطنا فيه بإفراط وفرح طفولي لا يليقان بالثورة، عقب إعلان تنحي حسني مبارك، ومغادرة الميدان، اكتفاء بإنجاز مراوغ دفع مبارك إلى خلفية مشهد قائم، وانتهى الأمر إلى تعثر ثورة كانت تحتاج إلى أبعد من حسن النية، الكثير من التدبر، بدلا من استجابة أغلب قوى الثورة إلى دهاة الثورة المضادة، إذ أوعزوا بأن اللجوء إلى أي إجراء استثنائي يسيء إلى شرف الثورة، وأن إقامة محاكمات استثنائية لمبارك ورجاله ستحول دون استعادة الأموال المهربة، وربحوا وقتا كافيا لتبريد ثورة يثير ذكرها ضيق أبرياء لم يعادوها، وربما شاركوا فيها، ثم أضيروا من نتائجها. كلما أتذكر الثورة، تحضرني آية “لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا”. لا أجد وجها عقلانيا للشبه بين القرآن والثورة، ولكن قلبي يطمئن إلى أن بالقرآن خطابا ثوريا، وأن الثورة لو أهديت إلى شعب، أو قام بها من تعوزهم النظرية الثورية، فسوف تصير ذكرى غير سارة.
لا تصبح الثورة ثورة بالنيات الحسنة وحدها، وإنما حين تستوي كائنا حرا يمشي في الأسواق، ويحكم بالعدل حكما واقعيا يتجاوز الأماني والكلام الإنشائي؛ إذ يكون الإلحاح بالكلام عن الشيء تأكيدا لغيابه؛ فلا تباهي المجتمعات الحرة بالكلام عن حريات أصبحت ثقافة وخبزا يوميا، أما جوبلز مبارك فكان يحلو له تكرار مقولة “مصر تعيش أزهى عصور الديمقراطية”، في تماه بائس مع فقير جائع يحلو له الفخر بأطعمة يشتهيها، ثرثرة كاذبة تعوضه نفسيا عن الامتلاك والاشتهاء، أما الغني فلا يعنيه كلام عن طعام.
الثورة استثناء في حياة الأمم، وأعظم الثورات قادها أنبياء، وأحدثت قطيعة مع ما سبقها، وتجري مصالحة وفقا لشروط الثورة التي لا يليق بها الخضوع لابتزاز الحرس القديم، فيتساوى بيت أبي سفيان بأي بيت يأمن فيه صاحبه.
وفي الغالب تسارع الثورات إلى العفو السياسي عن ضحايا الحكم الذي قامت ضده الثورة، أما أن يترك هؤلاء الضحايا لمصائرهم، ثم يستدرج الحكم الجديد ضحايا آخرين لأنظمة سابقة إلى المحاكم، فيؤكد انفصال رأس النظام عن جسده، وعمل كل جناح بعيدا عن عقل عام يعجز عن إدارة الدولة التي تنتظر الانهيار، وفقا للمثل الشعبي القائل إن بيت المهمل أسرع إلى الخراب من بيت الظالم، فإذا جمع رب البيت بين الإهمال والظلم تصبح النهاية وشيكة وحتمية، بلا عزاء.
وما جرى ويجري في مصر الآن ملهاة سأكتفي منها بمثالين. في الأربعاء الخامس من يونيو عام 2013، بدأ اعتصام مثقفين في وزارة الثقافة بالقاهرة. في ساعة الاعتصام الأولى كان أغلب المشاركين فوق سن السبعين. كان المطلب إصلاحيا، وتطور إلى المطالبة بعزل الرئيس الإخواني محمد مرسي انتظارا للالتحام مع الملايين ستخرج في 30 يونيو.
الآن، في هذا العبث غير السياسي غير الثوري، أفلت هؤلاء من المحاكمة بتهمة اقتحام مقر وزارة والاعتصام السلمي فيه، وهي اتهامات لاحقت غيرهم، وأدت إلى السجن، بناء على أحكام تؤكد انفصال جهازي النيابة والقضاء عن الوعي العام، وتحديهما لإرادة سياسية غائبة.
في الأربعاء التالي 12 يونيو 2013، اعتدى منتمون إلى جماعة الإخوان على شبان معارضين لحكم الإخوان في مدينة الإسكندرية، ونقل المصابون إلى المستشفى، وأرسلت المحاضر بالواقعة في اليوم التالي إلى النيابة التي قررت بدء التحقيق بعد ثلاثة أيام. ولكن التحقيق تأخر 18 شهرا، حتى شهر يناير 2015، ووجهت تهمـة الاعتـداء لسبعة من الإخـوان، كما وجهت تهمـة التحريض على التظاهر وتكدير السلم والأمن العام إلى هيثم الحريري الذي لاحقه الاتهام بعد أن أصبح نائبـا في البرلمان الحالي، ثم صدر حكم قضائي في نهاية الشهر الماضي ببراءته.
لو أن ثورة مرت بمصر لأنهت هذا العبث، وحفظت القضية بمجرد محو 30 يونيو 2013 لما سبقها، وكان يمكن للقاضي الذي حكم بالبراءة أن يقضي بسجن البرلماني الشاب بتهمة التحريض على التظاهر ضد حكم الإخـوان، ولنا في مساخر أحكـام سابقة عبرة، فبعد أن حكـم قاض ببراءة الكـاتب أحمـد ناجي في ينـاير 2016، سـارع فـي الشهر التالي قاض آخر إلى إصدار حكم استئنافي بحبس الكاتب عامين، بتهمة خدش الحياء.
ما جرى مع النائب هيثم الحريري يهون إذا ما قورن بكوميديا غير ثورية بطلها طالب الدراسات العليا محمد عراقي الذي فوجئ في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي بصدور حكم قضائي غيابي بالسجن خمس سنوات، خففت إلى ثلاث، بتهمة “محاولة قلب نظام الرئيس محمد مرسي”. مأساة تشبه مأساة الشاب أحمد عبدالرحمن الذي قادته مصادفة المرور بمظاهرة لمحتجين على قانون التظاهر بوسط القاهرة، في نوفمبر 2013، وحاول إنقاذ متظاهرات من معتدين فقبض عليه، ومازال قيد الحبس الاحتياطي دون اتهام ولا محاكمة.
وكذلك حاول محمد عراقي في مارس 2013 إنقاذ إحدى المحتجات على حكم مرسي في بلده بمحافظة الشرقية، فقبض عليه وأفرجت عنه النيابة بكفالة، ثم اتهم بعد زوال حكم الإخوان بمحاولة قلب نظامهم، وبعد قضاء نصف المدة أفرج عنه بقرار وزاري، وليس بعفو سياسي رئاسي. في التاريخ لا يصح قول “لو”؛ لأن ما وقع أصبح تاريخا. ولكن 30 يونيو “لو” فشلت، واستمر حكم الإخوان، لكان السيسي أول المعزولين، ربما دون الترقية إلى رتبة “المشير”.