الحياة - في حديثه في لقاء الأسرة، كان الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الذي اعتلى سدة الحكم بعد غضبتين شعبيتين، أطاحتا بالدولة لولا ستر الله ثم تحرك جيش مصر المخلص، يريد إيصال معلومة مهمة مفادها: أنا أمين على هذه الأرض، والرجاء عدم المزايدة.
قد تكذب الكلمات، ولكن تنهيدات الصدر لا تقول سوى الحقيقة، وربما أنها الشيء الوحيد الذي لم يستطع إخفاءه عن مكبرات الصوت النقية، فقد التقطت الألم، والشعور الكبير بالحزن، مما آلت إليه نتائج النفخ في صدور المصريين بقصد تخوينه. كان السيسي في خطابه مثل الوالد الذي يشقى في سبيل توفير الآمان والحياة الكريمة لأولاده، لكنه كلما عاد إليهم وجد بينهم ضالين، يئدون كل فرحة، وكأنه كُتب عليهم الشقاء، وعلى غيرهم بسببهم التعاسة.
يقع الشعب المصري بين كماشتين قويتين، الأولى نخب متعالية، استطاعت من خلال الفرص التي تهيأت لها أن تفك «شيفرة» قلوب المصريين العاطفية جداً، حتى تحكمت بعقولهم، هذه النخب هي ذاتها التي تتعامل مع بقية العرب بغطرسة وكبر، نخب تهوى التنظير لدرجة الغرق في وحله، نكابد جنون عظمتها نحن السعوديين في كل مرة تختلف وجهات النظر بين بلدينا الشقيقين فعلاً، ونحتمل إساءاتهم لنا بدعوى ما «كنا» عليه، بكل معاني الوفاء والتبجيل لأساتذتنا الذين كان لهم قصب السبق في تعليم السعوديين، وعلى رغم بالغ الامتنان الذي نبديه على الدوام حفظاً للجميل، إلا أن هذه النخبة أو قل «النكبة» من هواة تفريق الجموع لا يزالون يعيشون في ظلمات الماضي السحيق، متجاهلين بفوقيتهم أن الشعب الذين يعيبون عليه بدائيته يوماً ما، تلاشت فيه أميته، فيما تبلغ الأمية اليوم بين أشقائنا زهاء الثلثين!
لم يجنِ المصريون من هؤلاء خيراً، وفي الوقت ذاته لم يكفهم «بعض» النخبويين شر تجنيهم على الناس. هذه الفئة من متسلطي اللسان جوراً وعدواناً، هم من جيّش المصريين على الجزائر من أجل «صافرة حكم» في مباراة كرة قدم، وهم أيضاً من حمل الإيطاليين على توجيه أصابع الاتهام للحكومة المصرية عند مقتل روجي ريجيني، وهم من كان لهم الدور الفاعل في شحن الإثيوبيين على مصر في قضية سد النهضة، كما صرح بذلك الرئيس السيسي نفسه، بدعواتهم إلى الحرب وضرب السد المائي بالطائرات! تلك النخب، تمتلك كل أدوات الطغيان، وفي المقابل تفتقر في كثير من الأحيان إلى اللباقة والديبلوماسية السياسية، وتُفقِد مصر ومعها المصريين كثيراً من الفرص التي كانت لولاهم سانحة تنتظر لحظة قطافها.
الكماشة الأخرى، هي تلك الحزبية المقيتة باسم الدين، وعلى رأس قائمتها جماعة الإخوان، كبيرها الذي يعلمها سحر الخروج، وفنون العصيان والتمرد، من أجل مصالحها الضيقة، ضاربة عرض الحائط بمصالح المصريين، ما دامت تلوح في الأفق بارقة، يرون أنهم من خلال استثمارها تتحقق أهدافهم التي سعوا لسنوات إلى تحقيقها، متجاهلين بغبائهم المعهود الذي يرديهم دائماً في مصيدة التقدير الخاطئ، ثم الفشل بكل المقاييس، أن الشعب المصري خرج عليهم بكل أطيافه رافضاً تسلطهم يوم أن مكنتهم الثورة الأولى من الحكم، فدوّا سقوطهم إثر ارتداد شعبيتهم حتى استفاق من هوله كل داعميهم، فيما هم لا يزالون في سبات أحلامهم يعمهون.
هاتان الفئتان، تنشطان اليوم في شيطنة التحالف السعودي - المصري، وإن كانت لا تغيب الوطنية عن بعض فئات الأولى منهما، مع سوء الظن ولا شك، فيما يجتمع بقيتها مع الثانية في انتهازية الموقف، مستغلين إعادة مصر جزيرتي تيران وصنافير إلى السعودية، في مسعاهم الحثيث إلى تكييف القضية في الشكل الذي يحقق رؤاهم، من دون اعتبار للعواقب التي لا يقيمون لها وزناً بكل تأكيد، فكلا الهدفين «الواضحين» سواءً أكان ضرب العلاقة بين البلدين، أم إسقاط الدولة المصرية من خلال رئيسها، ليس في وارد اهتماماتهم ما دام يحقق مبتغاهم.
ختاماً، إن الدولة المصرية التي اجتازت محنتي الثورتين الفارطتين، وتخطت بتعاضدها مع أشقائها العرب وفي مقدمهم السعودية، كل الذي تم رسمه من خطط الإضعاف والتوهين، لقادرة على عبور هذا النفق الذي يحاول أولئك المتسلقون صنعه، ولكن بشرطي اليد الواحدة التي تربط مصر بالسعودية، وتحاول الدنيا كلها فك ارتباطهما، والشرط الثاني هو الحزم، من دون الالتفات لغير مصلحة مصر، فلا كرامة في هذه الظروف العصيبة لأحد من العابثين.