تجاوزت السعودية سنوات هي الأصعب في تاريخها منذ تأسيس الدولة بشكلها الحالي، قبل أكثر من نصف قرن. منذ بداية أحداث الربيع العربي، لم تكن الأسئلة حول من سيسقط، ولكن متى، وبدا أن هذه الأسئلة، وإجاباتها أيضاً، لا تستثني أحداً من آثار هذا الطوفان الشعبي الرهيب. كانت المملكة، ولا تزال، بيضة التغيير الذهبية، التي يطمع كثيرون في الحصول عليها.
لا يتوقع أن تعيش السعودية دون تهديدات لهذا العام، أو الأعوام التي تليه، فمملكة بهذا الحجم، والموقع الاستراتيجي، والثروة، أكبر وأهم من أن تُترك لحالها. لازمت التهديدات، القاسية، السعودية منذ تأسيسها، وتمكنت المملكة النفطية من التغلب عليها بتوازن ذكي من مجموعة تحالفات دولية، وبفضل سلاحها البترولي، وما أفاضت به هذه البراميل من ثروات طائلة على خزينة الدولة.
حالياً هذه الركائز تقلصت أهمية معظمها، ولم تعد أوراقاً تملكها السعودية وحدها، وهذا ما يجعل من إعادة تعريف مفهوم الأمن الوطني السعودي، وحدوده، وأركانه الركينة، مهمة بالغة الأهمية لصانع القرار، وأجهزة إدارة السياسة الخارجية في المملكة.
لم يعد التحالف مع أميركا، وهو واحد من أهم التحالفات التي أبقت السعودية قوية إقليميا، موجوداً، إضافة إلى أن تأثيرها في سوق النفط العالمي يتم اختباره حاليا، عبر عدة أسئلة من دول متمردة على "أوبك" وكانت الإجابة أنها (السعودية) لن تستطيع التحكم في مجريات السوق النفطية لوحدها. بيد أنه لا تزال لدى المملكة ملاءة مالية ضخمة، تمكنها من الإنفاق بسخاء لعدة أعوام، وسوق واعدة للاستثمار، مليئة بالفرص.
التهديدات السياسية كبيرة، ويتوقع أن يكون أهمها خلال هذا العام، مجريات ومآلات حرب اليمن، وعدم الاستقرار في العراق، والتحديات المذهبية والديمغرافية في البحرين، والطموحات القطرية الكبيرة، وغموض مستقبل الحكم في عُمان، إضافة إلى غياب قواعد التحالفات الكلاسيكية التي كانت تمتلكها السعودية سابقاً مع أميركا، ودول أوروبا.
لقد أضيفت إلى قائمة هذه التحديات ملف العلاقات مع مصر، من خلال عودة جزيرتين كانتا تحت الإدارة المصرية إلى سيادة المملكة، وهو أمر وضع حليفا مهما للمملكة، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، تحت التهديد الشعبي، وأعاد شحن خلايا الإخوان لاستغلال الأمر بغية العودة إلى ساحة اللعب السياسي في مصر.
كان من الممكن أن تتم عملية عودة الجزر من خلال مفاوضات تحت مظلة الأمم المتحدة، وبذلك يمكن الحفاظ على شعبية الرئيس السيسي، من خلال منحه الغطاء الدولي، وألا تكون ضمن اتفاقيات اقتصادية. هذه الإتفاقيات الضخمة بين البلدين بالتزامن مع اتفاقية عودة الجزر السعودية، مكّنت البعض من تصوير المسألة وكأنها تبدو عملية بيع وشراء، وأدى ذلك إلى أن يستغل أطراف النزاع الداخلي المصري هذه الاتفاقية، والعلاقات مع السعودية، ضمن مجريات الصراع المستمر بين الحكومة والمعارضة.
إن الخوف من البحر الأحمر مبرر بالنسبة للسعوديين، فمنه وإليه، ومن مياهه الساخنة، وأمواجه الهادرة، تم وضع حد لطموحات الدولة السعودية الأولى ودعوتها الوهابية، التي أرادت أن تجاوز البحر، والتوسع غرباً على طريقة الفتوحات الإسلامية المجيدة. ومن البحر الأحمر أيضاً استمرت تحرشات محمد علي باشا بالدولة السعودية الثانية وهي بالكاد تلتقط أنفاسها حتى أُنهٍكت.
أمام هذا التاريخ المزعج للبحر الأحمر بالنسبة إلى أقدار ساكني جزيرة العرب، يحق لأهل الدولة الثالثة أن يستفسروا، ويقلقوا من ملف علاقة بلادهم بهذا البحر المخيف، وكيفية إدارة مستقبله.
أكثر ما يخيف الوهابية العظيمة المتوقدة، وأحفادها، من فجر تاريخها، كان البحر... البحر!
ولطالما وجدت الدولة والدعوة، أمانها التاريخي في أحضان تلك الصحراء المتسعة، والكثبان التي كوتها الشمس الحَرِقة، فالبحر بساحله الممتد دون حواجز وحُجُب، حالة انكشاف، بينما كانت الصحراء حالة سكون وبقاء!
معروف أن هنالك حدودا بحرية للسعودية مع إسرائيل، لكنها مهملة عمداً. لم تحدث هنالك أية عمليات تواصل بين الأجهزة البحرية على الضفتين. من شواطئ حقل يمكن أن ترى أضواء إيلات، وفلسطين، وسيناء. لم تسجل حالات اختراق سوى حالة طريفة. ذات ليلة تفاجأت إحدى دوريات خفر السواحل في مدينة حقل شمال غرب السعودية، فتاة عارية تبيّن أنها ثملة، تسبح مقتربة من الشاطئ. ونظراً للموقف المحيّر، وعدم رغبة السعوديين في أي تواصل مع إسرائيل، كان الحل العملي السريع أن أخذوها وأنزلوها قرب الحدود البحرية الإسرائيلية، لتنتهي بذلك القصة. وقد تكون السبّاحة تاهت من أحد يخوت الرحلات البحرية، أو جندية أرادت أن تستكشف، وتستطلع شواطئ الجيران!
سيكون سؤال العلاقات مع إسرائيل مُلحّاً خلال العقد المقبل بالنسبة إلى السعوديين، وكل إجاباته مزعجة!
في منطقة الخليج لا تزال الطموحات القطرية كبيرة، بأكثر مما أعطتها إياه الجغرافيا، التي حصرتها في إقليم صغير، دون منفذ بري إلا عن طريق المملكة. ولعل التحالف القطري-التركي، الذي نشأ عنه الاتفاق على بناء قاعدة عسكرية تركية في قطر، أكثرها خطورة. لأول مرة يعود الجنود الأتراك إلى الجزيرة العربية منذ قرن بالتمام والكمال!
وفي الشمال البعيد البعيد، لا تزال لدى القادة الأتراك أحلامهم القديمة في تولي إدارة شؤون مكة والمدينة. كان ذلك حلماً حتى جاءت أحداث الربيع العربي، ونهض أردوغان محاولا تحقيقه بنعومة وخفّة، لولا رسالة ساخنة تلقاها من الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز، كان مفادها، بوضوح الملك وصراحته المعروفة، "أن حلماً كهذا غير مشروع"، وأن "ما قلته في طهران سمعناه وسائنا ما سمعنا"!
وفي ذلك الشمال أيضاً، أنفقت السعودية على لبنان الكثير من المال، وأوراق السياسة، بما يتجاوز أهميته بالنسبة للأمن الوطني للمملكة. أنفقت على الانتخابات اللبنانية، التي أدت إلى فوز سعد الحريري، أكثر مما دفعه أوباما في انتخابات البيت الأبيض. كان الاهتمام السعودي بلبنان مبالغاً فيه، لكن العام الجديد كشف عن خروج لبنان من المعادلة السعودية لصالح اليمن.
أما الذين يتساءلون لماذا تقاعست السعودية عن التدخل في العراق فور سقوط نظامه، وبسط نفوذها لتكون شريكاً في مستقبل دولة حدودية كبرى، فالإجابة على ذلك السؤال بسيطة جداً: لم يُسمح لها.
لم تستطع السعودية التدخل في العراق لملء الفراغ بعد زوال نظام صدام بسبب رفض العراق وأميركا أي تدخل سعودي. وحين وصلت بعثة طبية سعودية لم يتم السماح لها بالدخول. وكانت تلك رسالة واضحة أن التدخل السعودي في العراق "غير مقبول بأي شكل من الأشكال"، وذلك باتفاق بين "الغازي" و "المغزو".
وشهد هذا العام خروج الورقة الباكستانية من يد اللاعب السعودي، فموقف إسلام أباد المتردد من "عاصفة الحزم" ومناورتها البحرية مع إيران، كانت رسائل أبلغ من أن يتم تجاهلها. تملك السعودية تأثيراً مالياً وروحيا كبيرا في باكستان، لكنه لا يكفي دون غطاء جامع وموجه للرأي العام في باكستان.
من أجل ضمان أمنها الوطني على المستوى البعيد، تحتاج السعودية إلى تكثيف اهتمامها بدول الجوار، وذلك ممكن عبر نظام "المظلات الإقليمية" التي تستطيع من خلالها المملكة تثبيت قوتها الدبلوماسية، وإبقاء أبواب الحوار مفتوحة لاحتواء المشكلات المستقبلية، ضمن حدود لا تتغير إلا بمقدار معروف ومضبوط.
يمكن تأسيس منظمات سياسية مع دول الجوار، تشمل فعالياتها قمة سنوية لكل منظمة، على غرار قمة دول مجلس التعاون الخليجي، يجري خلالها تبادل وجهات النظر، وتثبيت التحالفات مع المملكة، لضمان أمن حدودها، والتعامل المبكر مع التهديدات المستقبلية.
وأهمها تأسيس:
منتدى الدول المطلة على البحر الأحمر
ويجمع السعودية واليمن ومصر والأردن والسودان وجيبوتي واريتيريا.
اتحاد دول الجزيرة العربية
ويجمع بالإضافة إلى دول الخليج العربية كلاً من العراق والأردن واليمن.
قمة الدول المطلة على الخليج
ويجمع بالإضافة إلى دول الخليج كلاً من العراق وإيران.
لقاء دول جوار القرن الأفريقي
ويجمع السعودية واليمن وجيبوتي وأثيوبيا وارتيريا والصومال.
من خلال هذه المظلات الإقليمية تستطيع السعودية ضمان استقرارها من التهديدات الخارجية، وتثبيت قواعد اللعب على حدودها المباشرة. وبهذا تنتهي الدائرة الأولى من عملية الأمن الوطني للمملكة، ثم تبدأ الدوائر الأخرى، والتي سيكون من أهمها بلا شك، فتح أبواب التحالف السياسي والثقافي بشكل أكبر مع القوى الكبرى في آسيا.
ستكون آسيا مسرح التاريخ العالمي خلال العقود القريبة المقبلة، وستكون ورقة الإجابة على سؤال: من هي القوة العظمى المقبلة؟
الله يعطيك العافية اخي سلطان
الله يعطيك العافية اخي سلطان
مقالك اخي سلطان موفق ونتفق معك في إيضاح الخلل الذي سبق وتعرضت له الامن الوطني في السابق من بعض التحالفات الغير مجدية ولكن الحل من وجهة نظري ليس في تحالفات جديدة وإنما في رفاهية المواطن والاهتمام والعناية اكثر بالشان الداخلي لان المواطن اثبت بدون جدال خلال الفتره السابقة التحامه مع قيادته ولم بتأثر بمحاولات كثيره سعت للتأثير عليه فقوة الامن الوطني تتلخص في ثلاث قوى رئيسية وموثرة هي (١) الشعب ورعايته ورفاهيته وتعليمه ينتج ولائه لوطنه والتفافه حول قيادته (٢) حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الدول المجاورة الا بالخير (٣) العلاقات المتينة مع الدول العظمى في المحرك الرئيسي للقوى في العالم وبهذا نستطيع الثقة في مفهوم الامن الوطني الحقيقي