الحياة - اتخذت انتخابات المجالس البلدية المقررة الشهر المقبل في لبنان أبعاداً تفوق أهميتها الواقعية، خصوصاً في العاصمة بيروت. وفي بلد يعاني أزمات اقتصادية وسياسية متداخلة ومتناسلة، تظهر الانتخابات هذه كساحة أخيرة لتجديد العمل السياسي وإنتاج نخب قادرة على تسيير أمور اللبنانيين الحياتية. الجمود الشامل للعملية السياسية على مستويات رئاسة الجمهورية والمجلس النيابي ومجلس الوزراء وشلل المؤسسات الدستورية واتساع علامات التفكك عليها، جعل الأنظار تتجه إلى البلديات، ربما كفرصة لوقف التدهور العام في أحوال البلاد.
لكن هذا الاستحقاق حُمِّلَ من الآمال أكثر بكثير من قدرته على الاستجابة حتى للضرورات الملحة، لأسباب عدة أولها أن الانتخابات البلدية ستعيد رسم الانقسام السياسي، ولو بخطوطه العريضة، المتحكم بالشأن العام منذ أكثر من عقد من الزمن. ثانيها أن السمات العائلية والولاءات المحلية تضفي سمة لاسياسية على البلديات التي يمكن أن يحصل فيها تغيير في مجالسها، مع ذلك يبقى ولاء جميع المتنافسين مضموناً لزعيم الطائفة أو الناحية. الثالثة، أن الأحزاب والتيارات النافذة لا تقيم وزناً يُذكر لتطوير المناطق وتنميتها من طريق البلديات. فهذه الأحزاب تتصرف على غرار كل السلطات حيث يعلو الولاء حُسن الولاية بفراسخ وأميال.
أما «أم المعارك» البلدية في بيروت فتكاد تتكرر فيها حرفياً مأساة الحراك في الصيف الماضي عندما حاول النشطاء المدنيون التصدي لأزمة النفايات. فمقابل اصطفاف شخصيات من المجتمع المدني يروجون لأنفسهم باعتبارهم خبراء في شؤون التنظيم العمراني وحماية المباني التراثية وتلبية متطلبات أصحاب الاحتياجات الخاصة، تقف لائحة التحالف الحاكم التي تضم القوى الأساسية المتصارعة في ما بينها في كل الميادين السياسية، بدءاً من الموقف من العلاقات مع الخارج وصولاً إلى تفاصيل عمل الأجهزة الأمنية، لكنها تتفق –للعجب!– على ترشيح لائحة موحدة في انتخابات مجلس بلدية بيروت.
ومثلما عمل «السياسيون» على ضرب الحراك وتشتيته في العام الماضي، سواء باستخدام العنف والتهويل والدعاية الكاذبة، ها هم يتفقون على ضرب اللائحة المناهضة لتحالف زعماء الطوائف. وليس في الأمر غرابة، ذلك أن أحداً لا يريد أن يغيب عن مجلس مدينة تبيض ذهباً تماماً مثلما لم يغب أحد عن تقاسم صفقات التخلص من النفايات ولو على حساب الإمعان في تدمير البيئة وجلب الأذى للمواطنين.
لا ينطوي الكلام أعلاه على حكم قيمة يُعلي من شأن لائحة على ثانية، بل يشير إلى وجهين لأزمة واحدة هما السياسة الطائفية من جهة، وقلة فاعلية كل محاولات كسرها والخروج منها، من الجهة الثانية. ولا يتمسك عاقل بوهم فوز لائحة المجتمع المدني في بيروت إذا علم أن الكتل الانتخابية الجاهزة ستصب، من دون نقاش حول كيفية تركيب لائحة تحالف السلطة أو مشروعها التنموي، ستصب أصواتها في المكان الذي طلبته زعاماتها المكرسة. يضاف إلى ذلك أن مجلس بلدية بيروت مقيد سلفاً وقانوناً بمحافظ المدينة، ما أدى إلى سلسلة لا نهاية لها من المناكفات بين الجهتين انعكست فوضى وإهمالا في شوارع المدينة.
بكلمات ثانية، تبدو انتخابات المجالس البلدية، إذا حصلت، أقرب ما تكون إلى تجديد الجمود وتكريس الأزمة منها إلى الاقتراب ولو خطوة نحو إضفاء المعنى والأمل على عملية ديموقراطية أصيلة.