العرب - في العالم المتقدم ليست هناك أقليات عرقية أو دينية. لقد حل مفهوم المواطنة المشكلة. ما من أكثرية أو أقلية إلا على مستوى افتراضي، كما هي الحال في الحياة السياسية. لذلك لم تعد مساهمة الفرد في الحياة العامة مرتهَنة بأصوله أو دينه، بل بمستوى قدرته الذاتية على الابتكار والتجديد، بما يهبُ التنافس الحر معنى إيجابيا، وبما يضمن للمجتمع قدرته على التطور وتجديد حيويته. ولو ألقينا نظرة على أكثر الدول حضورا على مستوى صناعة مفاهيم الحياة الحديثة لوجدنا أن شعوبها متعددة الأعراق ومختلفة الديانات دون أن يقف ذلك التعدد والتنوع عائقا في وجه وحدتها الاجتماعية والسياسية. في تلك الحالة يكون العكس هو الصحيح؛ فكلما ازداد التنوع ارتفع منسوب الغنى الثقافي. وهو ما يحقق ازدهارا فكريا من شأنه أن يوسع آفاق البحث عن حلول خلاقة للمشكلات التي تطرحها الحياة.
وقد تكون مجتمعاتنا العربية محظوظة بذلك التنوع البشري الذي أغنى ثقافتها بمصادره في عصور الرقي الحضاري التي عاشتها عبر الزمن. فالعلماء والمفكرون والزعماء السياسيون والأدباء من غير العرب والمسلمين كان لهم دور بارز في إنجاز الصورة التي ظهر من خلالها العرب والمسلمون باعتبارهم أمة متحضرة، كانت في لحظة ما تقف على قمة السلم الحضاري.
لم يكن مفهوم “الآخر” قائما على أساس الانتماء العرقي أو الديني، بل على أساس فكري، هو في حقيقته دليل الثراء الخيالي الذي يتمتع به المجتمع، وهو يسعى إلى أن يكون مرآة صادقة لقدرة أفراده على الخلق والابتكار. أما حين حل الانحطاط فإن كل المفاهيم قد ذهبت إلى أسوأ ما تنطوي عليه من معان، فبدا “الآخر” عدوا، بعد أن برزت على السطح النزعات الإقصائية التي تعود إلى مرحلة ما قبل قيام الدولة الحديثة.
وما تكريس مفهوم الأقليات إلا محاولة لعزل جزء عزيز من المجتمع، وتقييد حركته داخل المجتمع، ودفعه إلى التفكير في الخيارات السرية التي تضمن له سبل الحماية في مواجهة التهديدات التي ينطوي عليها سلوك المجتمع الملغوم بالشك والحذر والريبة. وليس هناك أقسى من أن يتخلى المجتمع عن جزء أصيل منه لأسباب ملفقة تعبر في حقيقتها عن خوف مفتعل من الأقليات التي تم اقصاؤها وعزلها وتدمير السبل التي تحقق احتواءها من قبل الحاضنة الاجتماعية التي يفترض أنها تضم الجميع، متساوين في فرص العيش الكريم والمساهمة في البناء.
لقد خسر العراق، على سبيل المثال، أكراده ويهوده ومسيحييه وصابئته وأيزيديته وتركمانه حين حولهم إلى أقليات، صار عليها أن تبحث عن حلول لحياتها خارج النسيج الاجتماعي الموحد للمجتمع العراقي.
وهو ما دفع نسبة كبيرة من أفراد تلك الأقليات إلى مغادرة وطنهم الأصلي بشكل نهائي بعد أن ضاقت أمامهم السبل.
ومن المؤسف، حقا، أن يكرس الدستور العراقي – وهـو القانـون الأعلى – فـي مختلف صوره مفهوم الأقليات تحت شعار حماية حقوقهـا. وهو مـا يعني، ضمنيا، إلغاء مفهوم المواطنة الذي يضمن تلك الحقوق.
في تلك الحالة لم يكن مفاجئا أن يتحول أتباع المذهب السني من العرب هم الآخرون إلى أقلية، تمارس في حقها كل أنواع الاقصاء والإلغاء والتهميش والإبعاد؛ ذلك لأن تكريس ثنائية الأكثرية والأقلية القائمة على أساس عرقي وديني هي باب مفتوح على الفتنة التي لا تقف عند حدود معلومة سلفا.
في الوقت الذي يتحرر فيه العالم من العنصرية ليرتقي إلى حقيقته فضاء مفتوحا على اللقاءات بين البشر القادمين من كل مكان بمختلف أفكارهم، تضيق بلدان عربية بتنوع سكانها بعد أن كانت شعوبها عبر التاريخ تضرب مثلا على التسامح والتعايش والتراضي.