العرب - عندما دعاني الصديق الشاعر نوري الجرّاح إلى الإسهام في ركن “كتب صنعتني”، ترددت طويلا، لأن ما قرأت، بحكم هذه الحرفة التي أدركتني، كثير، ولو أن ما لم أقرأه بعدُ بحجم الجبال، فضلا عما أعود إليه بين الحين والحين، إما للضرورة المهنية، وإما لقراءته بعين خبيرة، بحثا عن جواهره المستورة التي غالبا ما نغفل في شبابنا عن اكتشافها، ولا أحسب أن عمرا واحدا يكفي لقراءة الأدب العربي وحده، قديمه وحديثه، فما البال بالآداب الأجنبية، سواء في لغتها الأصلية أو معرّبة؟ ثم إن الكاتب، في تصوري، ليس صنيعة كتب بذاتها، بل صنعته، ولا تزال تصنعه، كل الكتب التي قرأها ويقرؤُها، ولو كانت في غير مجالات اهتمامه. كلّ كتاب يسهم، ولو بنزر ضئيل، في تمتين ثقافته، وإغناء معارفه، وإثراء زاده، وتزويده بأدوات تفيده في فهم الكون، ومقاربة الواقع، والإمساك بمستجداته، لأن حياة الفكر أبعد من أن تحدّد بأسماء كبيرة وحدها ونصوص جليلة دون سواها.
ومن ثمّ، أجدني أميَلَ إلى تخيّر الكتب التي لا تزال عالقة بالذاكرة، تلك التي أقبلت عليها أيام اللهفة على مصنفات لم تكن متوافرة بالقدر الكافي، وإن كانت هي أيضا من الكثرة بمكان. منها ما يشكّل جذعا مشتركا لسائر الكتاب في الوطن العربيّ، سواء في متنه القديم كالبخلاء ورسالة الغفران والأغاني وكتب الأخبار والتاريخ والأمالي وسير الملوك وكليلة ودمنة ومقامات الهمذاني، أو في صيغه الشعبية كملحمة سيف بن ذي يزن وسيرة عنترة بن شداد والزير سالم وتغريبة بني هلال وألف ليلة وليلة بعد تدوينها، أو في متنه المعاصر كروايات جورجي زيدان ومحمد فريد أبوحديد وعبدالحليم عبدالله وتوفيق الحكيم ويحيى حقي ونجيب محفوظ، أو في صيغته المعرّبة كروايات الكتاب الروس والأميركان والفرنسيين والألمان في القرنين الماضيين… ومنها ما يفترق حوله الكتاب في هذا القطر أو ذاك، إما لاختلاف المقررات المدرسية، أو لاختلاف اللغة الأجنبية التي يكتشفون من خلالها آدابها وعلومها.
كان يمكن أن أختار “حيّ بن يقظان” للفيلسوف الأندلسي ابن طفيل، و”المعذبون في الأرض” لطه حسين ونبيّ جبران و”يوميات نائب في الأرياف” لتوفيق الحكيم و”قنديل أم هاشم” ليحيى حقّي و”آخر الموهيكان” لفينيمور كوبر و”كوخ العم توم” لهارييت ستو وبؤساء فيكتور هوغو و”الكونت دي مونت كريستو” لألكسندر دوما و”الكابتن ميخايلي” لكازنتزاكي وسواها كثير، ولكني آثرت عليها كتبا أربعة أخرى سوف تكتشفونها في قادم الحلقات، لصلتها الوثيقة ببداياتي.