الحياة - على أهمية التحليلات الاقتصادية والسياسية لـ «رؤية السعودية 2030» وضرورتها التي يقوم بها الخبراء الدوليون والمسؤولون في المراكز البحثية المتخصصة في هذه المرحلة، فإن التحليل الثقافي والتقويم الأكاديمي لهذه الخطة الطموح والرائدة، يفتحان أكثر من غيرهما، الباب الواسع أمام المفكرين الاستراتيجيين للنظر إلى هذا المشروع الكبير من الوجهة الحضارية الأبعد أفقاً والأعمق مضموناً. فليس من شك في أن المملكة العربية السعودية قد دخلت بهذه الخطة الشاملة، مرحلة يجوز أن نقول عنها إنها إعلان لعهد جديد متميز بكل ما في الكلمة من معانٍ ودلالات ومفاهيم وإشارات. فنحن إزاء نقلة نوعية، ليس في اقتصاديات المملكة فحسب، وإنما في استراتيجية المملكة، وفي رؤاها، وفي اختياراتها وسياساتها، على نحو بالغ الجرأة والطموح.
وحينما نصف «رؤية السعودية 2030» بأنها نقلة نوعية، فإننا نعبّر تعبيراً دقيقاً عن حالة من التجديد، ليست من قبيل الحالات التي توصف بهذا الوصف من باب الدعاية والتجميل، ولكنها حالة تجديد قائمة على الدراسات العلمية، والتخطيط الدقيق، والقراءة الصحيحة للخرائط الاقتصادية والاجتماعية، والإدراك العميق للمتغيرات السياسية، والفهم السليم للمؤشرات الدَّالة على واقع الحال، والاستشراف البعيد لآفاق المستقبل الذي يبدأ اليوم.
لقد كان خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، دقيقاً وحصيفاً وحكيماً حين وصف هذه الرؤية الاستراتيجية بأنها رؤيةٌ طموحٌ، وعبّر عن أمله بأن تكون أنموذجاً للعالم، في أفق المتغيرات المتسارعة التي باتت تهدد الاقتصاد العالمي بالتراجع، نتيجة لتضافر عوامل متداخلة. ذلك أن طموح الشعب السعودي، هو من طموح القيادة السعودية التي أبدعت خطة استراتيجية بهذا القدر العالي من الطموح. ولن يتمكن المحللون السياسيون والاستراتيجيون من إدراك أبعاد هذه الرؤية، ما لم يضعوا في الاعتبار الإرادة السعودية التي تقف وراء هذا المشروع الاستراتيجي الفريد من نوعه بكل ما في الفرادة من معنى عميق. فهذه إرادة شعب وقيادة صمما على العيش بكرامة وفي سلام، وعلى تحقيق الأهداف الوطنية بهذا القدر الوافي من بُعد النظر، ومضاء العزيمة. فلم يذعنا للأمر الواقع، ولم يستسلما للمتغيرات الاقتصادية والسياسية الضاغطة ويقعدا مع القاعدين في انتظار الذي يأتي ولا يأتي فاقدَي القدرة على التحرك في الاتجاه الصحيح، ولكنه شعب وقيادة يريدان الحياة المزدهرة، صمما وعقدا العزم على مواجهة الواقع وتحدياته لصناعة مستقبل أكثر أمناً واستقراراً.
وبهذا الاعتبار تكون هذه الخطة الطموح مقدمةً لنهضة حضارية شاملة، ستفتح أمام المملكة العربية السعودية آفاق المستقبل، وتواصل بناء وطن أكثر ازدهاراً وأرسخ استقراراً، يجد فيه كل مواطن ما يتمناه. وهو ما عبر عنه الأمير محمد بن سلمان، وليّ وليّ العهد بقوله في تقديمه لهذه الرؤية، إن مستقبل وطننا الذي نبنيه معاً، لن نقبل إلا أن نجعله في مقدمة دول العالم بالتعليم والتأهيل، بالفرص التي تتاح للجميع، والخدمات المتطورة، في التوظيف والرعاية الصحية والسكن والترفيه وغيره. إنها إذاً، الرؤية الشمولية المنطلقة من الأمل العريض، والحاملة بشائر الخير، والمحققة طموح الشعب الذي يضع ثقته في قيادته التي يعتز بها، ويتطلع إلى مزيد من الرخاء والازدهار والأمن والاستقرار.
إنَّ نجاح هذه الرؤية في تحقيق أهدافها التنموية والتجديدية يتطلب قدراً كبيراً من الحزم والعزم لضمان الحكامة الجيدة والشفافية والمحاسبة، والحرص على توظيف الكفاءات القادرة والمخلصة من الرجال والنساء، وترشيد الإنفاق والتأكد من حسن استخدامه، ومنع الهدر المالي ومحاربة الفساد بكل أنواعه. وهذا ما نتوقعه من قيادة عرفت بالجدية والإقدام، وبالحرص على سلامة الوطن وكرامة المواطن.
إن آفاق المستقبل قد انفتحت على امتداداتها أمام المملكة العربية السعودية، ويتوجّب ارتيادها بالقدر اللازم من الجدية، وبعدم التساهل في القيام بالواجبات الوطنية التي يفرضها الدين الحنيف، وتمليها المصلحة العليا للوطن. فالمرحلة الحالية والمراحل المقبلة ستكون لا محالة مليئة بالتحديات التي ينطوي بعضها على الأخطار التي لا سبيل إلى مواجهتها إلا بترسيخ الجبهة الداخلية، وبالمزيد من الالتفاف حول القيادة الوطنية، وبالتحلي بالحكمة والوعي بعظم المسؤولية.
وعلى هذا الأساس، فإن «رؤية السعودية 2030»، إن كانت نقلة نوعية وبشائر نهضة حضارية واعدة، فإنها تمثل تحدّياً حضارياً غير مسبوق، يتوجب التعامل معه ومواجهته شعباً وقيادةً، ومن وحي هذه الرؤية الاستراتيجية نفسها. لأن هذا المشروع الحضاري الكبير هو كما سبق القول، إعلان عن انبثاق عهد جديد يبشر بالخير، ولكنه يحملنا جميعاً مسؤوليات مضاعفة للنهوض بالوطن، ولحماية مصالحه العليا، وللحفاظ على المكتسبات، وللارتقاء إلى المكانة العالية التي نطمح إليها بين دول العالم.