يصرف السعوديون في أرض الله الواسعة قرابة ثلث العجز الحاصل في موازنة دولتهم البالغ 300 بليون ريال، إذ قدرت هيئة السياحة والتراث الوطني في آخر إحصاءاتها أن حجم إنفاقهم المتنامي على السياحة الخارجية بلغ العام الماضي نحو 96,2 بليون ريال، بزيادة 27,5 بليون عن العام الذي سبقه، الأمر الذي يضع على عاتق هيئة الترفيه المستحدثة أخيراً تحدي الإسهام في الإبقاء على جزء من هذه المصروفات داخل السعودية.
سأتحدث بواقعية، ولن أغمض عيني عن شيء لمصلحة الفضيلة «المزعومة»، فضيلة العادات والتقاليد والخصوصية السعودية، التي حجبت عن السعوديين كل مباهج الحياة في بلدهم وتركتهم يرتحلون بحثاً عنها في كل بقاع الدنيا.
يؤيد السعوديون في قرارة أنفسهم انفتاحاً حقيقياً، لكنهم في ظل عدم الانفتاح، فإنهم يقبلون بعدم الانفتاح! أعلم أن المعادلة صعبة، تلك التي أفرزت تناقضاً عجيباً يمثل واحداً من أبرز سمات الإنسان السعودي على الإطلاق، وربما أنها العائق الأبرز الذي قوّض فرص التنوع الاستثماري السياحي لمصلحة فئة محددة يعلو صوتها على جميع الأصوات في السعودية. من المناسب هنا ذكر المشهد الذي لا يغيب عن مخيلتي، وأتذكره دائماً عندما يطرح السعوديون السؤال الأكثر إلحاحاً حين يشاهدون متع الحياة خارج بلادهم: لماذا لا يكون مثل هذا في بلدنا!
حين كنت في إحدى الدول الخليجية، شاهدت إحدى الأسر المحتشمة حقيقةً، وكنت أعرف ربّها تمام المعرفة، الذي يعد «ملتزماً» بحسب العرف الاجتماعي، رأيتهم في تلك الدولة في مطاعمها ومقاهيها وفي دور السينما أيضاً يحضرون عروض الأفلام الجديدة، لا يمنعهم منها شيء، يعيشون حياتهم في شكل طبيعي مثل بقية خلق الله، المفارقة التي استوقفتني كانت بعد هذه الرحلة بنحو شهرين عندما جمعتني بهم الصدفة مرة أخرى، ولكن في أحد فنادق الرياض الشهيرة، وربما لم أكن لألحظ وجودهم لولا أني وجدت ذلك الأب يمارس طقوس فرض الوصاية على الجميع، ويطلب كتم أنفاس فيروز التي كانت تتردد بهدوء في الأنحاء، بحجة أن الأغاني حرام! ذلك الشخص يمثل شريحة لا يستهان بها من السعوديين، يمكن مشاهدتهم في دول مثل ماليزيا وتركيا اللتين تجد فيهما صنوف التعري والتغريب، لكنهما في عرفهم «ديرة مطاوعة» ولا شك! من وجهة نظري، فإن ذلك التناقض الغريب يبقى أهم عقبة يمكن أن تواجه الهيئة العامة للترفيه، ويقع على عاتقها عبء الإسهام في تحرير السعوديين منه، نريد أن نعيش إنسانيتنا من دون ذلك الوجه المتجهم الذي يمتطيه كثيرون في السعودية، لكنهم يترجلون منه خارجها.
لا توجد عناوين عريضة على الأقل للهيئة الوليدة يمكن أن نتناول حيثياتها في هذه العجالة، لكن بإمكاننا الحديث عن الإمكانات التي تحويها السعودية، بدءاً من التنوع الثقافي الذي سعت بعض الأيادي الظاهرة إلى كبت مخرجاته من خلال شن الحروب الإقصائية في اتجاهه، في محاولات حثيثة لوأده في مهده أو في الصدور، لتطمس في ذلك كم الإبداع الذي حوته العقول الشابة السعودية، قبل أن تسهم النقلة النوعية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي في استظهاره من جديد، وليس انتهاءً بالتنوع الجغرافي الذي يحسدنا عليه المستثمرون من خارج السعودية، ويستغربون في ذات الوقت من عدم استغلالنا له، سواء أكان في مرتفعات الجنوب التي حباها الله بالأجواء الرائعة صيفاً وشتاءً، والتي لا تزال تفتقر لأبسط مقومات السياحة على رغم ضخامة الإمكانات المادية للدولة أو حتى رجال الأعمال الذين ينتظرون إشارة البدء بالتحول نحو صناعة سياحية تحترم ذائقة الجميع، بعيداً عن الوصاية من أطراف فرضت الرأي الواحد على البلاد والعباد طوال عقود من الزمان، أم في الصحاري التي تشكل النسبة الأعلى في السعودية، وكانت التجارب في استغلالها من الدول المجاورة ناجحة في كل المقاييس، وجاذبة للسياح من الخارج الذين - بالمناسبة - ينبغي على الهيئة الوليدة العمل في كل اتجاهات الدولة على استقطابهم.
قبل الختام، تلزم الإشارة هنا إلى جدية التوجه الجديد نحو صناعة سياحية وترفيهية حقيقية في السعودية، الذي تبدو دلالاته مهمة ومبشرة، وذلك بإسناد مهمة قيادة الدفة في الهيئة العامة للترفيه إلى الرجل المتخصص في الاستثمار وإدارة الثروات أحمد الخطيب، الوزير الذي يواجه اليوم فرصة إثبات جدارته لمن أعاد الثقة به والرهان عليه مرة أخرى، وكذلك للشعب الذي حكم عليه نتيجة موقف تعامل معه بجفوة تتنافى ربما مع طبيعة العمل الجديد، والهيئة المهمة التي أنيط به العمل على بنائها.