بانتخاب صادق خان (المسلم ذي الأصل الباكستاني)، عمدةً لمدينة لندن، تقدّم بريطانيا للعالم برهاناً جديداً، ليس على خلوّها من العنصرية، بل على قدرتها الفائقة على ضبط وترشيد عنصريتها، إذ لا تخلو دولة أو مجتمع من العنصرية بكافة تجلياتها: الدينية والقومية والعرقية، لكن الفروقات بين الدول والمجتمعات تكمن في حجم القدرة على تحييد الانحيازات العنصرية من الظهور على سطح التعامل الرسمي، أما المشاعر الباطنية فلها شأن آخر.
لطالما سُئلت، بحكم إقامتي الموقتة في باريس، وخصوصاً بعد وقوع أحداث العنف فيها، عن تأثير الأحداث في مزاج الشارع الفرنسي، خصوصاً تجاه الغرباء والمهاجرين. وكنت أجيب دوماً بإجابة واحدة، لم تزد مع الأحداث المتوالية إلا رسوخاً في ذهني، وهي أن المزاج الفرنسي ليس بهلوانياً خفيفاً كالمزاج الأميركي، لكنه ليس رصيناً ثقيلاً كالمزاج البريطاني.
تسنّى لي أن أكون في زيارة عمل لندنية، بعد تفجيرات تموز (يوليو) 2005 المؤلمة بأيام قليلة، وقد ترددت في الذهاب إليها ظناً بأنها ستنقلب رأساً على عقب، كما فعلت أميركا بعد أحداث سبتمبر. لكن المفاجأة التي أظهرتها لندن لكل المراقبين حينذاك أنها عاصمة الديموقراطية العميقة بحق، إذ لعقت جرحها بدلاً من أن تلعق كرامة الناس.
ما الذي يقف خلف هذه الفروقات التشريعية والتنفيذية بين بريطانيا وأميركا؟ إذ كلتاهما تنتمي إلى النظام الديموقراطي سياسياً، والبروتستانتي دينياً، والرأسمالي اقتصادياً؟
لن نغفل بالطبع عن امتيازات التاريخ البريطاني العتيق، دولةً وحضارة ومدنية، مقارنة بأميركا شبه الخالية من التاريخ!
لكنّ سبباً جوهرياً آخر قد يفسّر المسألة، يكمن في شكل العلاقة بين البروتستانية والرأسمالية بين البلدين. فأميركا استخدمت الدين من أجل تمرير وتبرير المزيد من الرأسمالية التي تحكم معظم ردود أفعال أميركا، بل وأفعالها الأصلية المسبقة.
بينما ما زال محافظو بريطانيا يستخدمون ما تبقى من أدبيات وقيم البروتستانية الأصلية لكبح جماح النهم الرأسمالي الذي يعبث بالعالم الآن.
أما فرنسا... الكاثوليكية (مع وقف التنفيذ)، والاشتراكية (مع تراخي التنفيذ)، فهي ما زالت تخوض صراعاً لم يعد خافياً، بين مغريات الرأسمالية ومثاليات الاشتراكية. ولذا فهي باتت، خصوصاً بعد الأزمة المالية العالمية، تحافظ في مجريات حياتها البيروقراطية اليومية على النمط الاشتراكي البطيء، بينما تقوم علاقاتها الدولية وسياستها الخارجية على المنحى الرأسمالي الوحشي ولكن ذي الكسب السريع.
وبالعودة إلى عمدة لندن المسلم، فإن الإنصاف يقتضي أن ننوه بأن الحكومة الفرنسية أيضاً تضم في مقاعدها وزراء من أصل عربي مسلم. لكن الفارق بين بريطانيا وفرنسا، أن عمدة لندن المسلم قد يصبح رئيساً للحكومة البريطانية قبل أن يصل فرنسي من أصل عربي أو مسلم إلى منصب عمدة باريس.
أما ردود فعل العرب «العنصرية» تجاه فوز صادق خان، والتنبيش بخطاب طُهراني في تفاصيل خلفياته وقناعاته ومواقفه، فهذه حكاية أخرى للعقل العربي... الذي لا ديموقراطية ولا بروتستانية ولا رأسمالية تحكمه!