الحياة - لعل اليوم هو الوقت المناسب لعودة اللغة العربية إلى الثقافة الإسلامية، بمعناها الواسع. فالقارئ الجاد للإنتاج المعرفي الإسلامي، لا يجد ضالته باللغة العربية بقدر ما يعثر عليها في لغات أجنبية، الإنكليزية أولاً، ثم الفرنسية.
مفهوم أن تحول عوامل شتى دون نشر ابحاث عميقة ومهمة، قام بها علماء مسلمون وغير مسلمين وكتبوها بغير اللغة العربية، في دول هذه المنطقة. ثمة تصورات مسبقة، قليل منها صحيح، عن نوايا شريرة وغايات سياسية واقتصادية وراء الأبحاث في الغرب في تاريخ الإسلام ونصوصه والأعمال التراثية الكبرى واجتماعه وحركية ثقافته على امتداد ما يقارب الألف عام.
ومفهوم أن ثمة مدارس غربية وضعت مناهج لم يغب الشطط عن بعضها ذهبت إلى نفي أي قيمة أو أهمية للتراث العربي - الإسلامي. لكن من المفيد اليوم نقد التصورات الجاهزة عن الاستشراق والرافضة رفضاً غريزياً له بالقدر ذاته الذي يصح نقد المدارس الاستشراقية صاحبة الصور النمطية التي تعمل على تثبيت تصوراتها بالبحث فيما الصواب هو عكس ذلك، أي بناء التصورات على نتائج البحث الحر والنقدي.
مناسبة هذا الكلام نشر واحد من الكتب العميقة في تناول الإسلام كمفهوم اجتماعي وثقافي وليس كمفهوم ديني – فقهي، ونقصد كتاب الباحث الراحل شهاب أحمد «ما هو الإسلام؟» الذي يستعير عنوان كتاب سابق للمؤرخ البريطاني مونتغمري واط ليقدم مقاربة مختلفة عن الثقافة الإسلامية وعما يبدو من تناقضات بين النص الديني والممارسة الاجتماعية، خصوصاً في المدى الجغرافي الممتد «من البلقان إلى البنغال» والذي عاش بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر في فضاء إسلامي متنوع من جهة المذاهب والسلطات السياسية فيما أدى التصوف والفلسفة جوانب بارزة من تشكيل الهوية الجامعة لهذه المناطق التي تخرج في العادة عن اهتمام الباحث العربي المتمسك بعصر ذهبي يبدأ مع ظهور الدعوة النبوية وينتهي بدمار بغداد على يد هولاكو. يظهر أحمد ببراعة تجاور التنوع مع الوحدة: الاختلاف الاجتماعي وما يمت إليه من ظواهر سياسية من جهة والتناغم الثقافي العميق من جهة ثانية. ولعل الفصل الخاص بأسئلة الإسلام الستة، من أمتع ما قد يقرأه الباحث عن فهم ذكي وحديث لمعنى الإسلام الآن.
في المقابل، لا يجد الدارس العربي للإسلام ما يجذبه إلى الاطلاع اطلاعاً عميقاً على الحركات السياسية والدينية التي ظلت حية ونشطة في تركيا وفارس والهند وأنتجت بعض أهم الآثار المعمارية والفكرية والتجارية وشكلت أول احتكاك تفاعلي وعميق مع الحداثة الأوروبية والاكتشافات الجغرافية الكبرى. فصاحبنا ما زال مقيماً على طمأنينة زائفة إلى امتلاكه الجذور الفعلية لهذه الحضارة المتعددة الفروع والمصائر. حتى ظاهرة المماليك الذين حكموا منطقتنا لنحو ثلاثمئة عام وبقي تأثيرهم واضحاً إلى حين صعود محمد علي باشا إلى السلطة في مصر في القرن التاسع عشر، يندر أن تحتوي المكتبة العربية على دراسة متماسكة عن الأسباب العميقة التي أدت إلى وصول هؤلاء «الجنود- العبيد» إلى السلطة، في حين أن ثمة كتباً عدة، أميركية وفرنسية خصوصاً، تسلط الضوء على ظاهرة المماليك من خلال القراءة الدقيقة للمصادر المتوافرة لكل الباحثين الراغبين.
مهما يكن من أمر، لا مفر من الشكوى من استسلام لرؤية ضيقة إلى العالم الذي نحن جزء منه تتقلص حتى درجة نبذ ما يفترض أن يكون جزءاً من تاريخنا وتراثنا، لكننا ننبذه بدعاوى النقاء والبحث عن الأصل.