من المهم أن لا نحكم على الأمور من وجهة نظر واحدة، ولعل في محاولة الانقلاب التركية مثال مناسب، فما حدث في شوارع اسطنبول يوم الجمعة ما قبل الماضية يستحق أكثر من وقفة، ولنبدأ بالتوقيت الذي تزامن مع موسم الإجازات الخليجية، والذي شهدت عليه مقاطع الخليجيين المرسلة لكل أحد عن طريق الهواتف الذكية، فقد تحول السائح الخليجي في تركيا إلى مراسل بالصدفة، ومارس رقابته الخاصة على أحداث لا يعرف عنها إلا خطوطها العريضة، ومن ثم أصبح محللا وخبيرا في "السوشال ميديا" ينقل رأيه ويوجه لكماً كلامياً مبرحاً لكل من يخالفه، ويأتي الحادث الجديد ليؤكد ما استقر في ذاكرة العالم عن العرب وأهل الخليج من أيام عبدالناصر، وأنهم شعوب عاطفية تؤثر فيها دراما الموقف أكثر من المنطق وحقيقة الأشياء.
في الحقيقة أردوغان كان يعرف عن محاولة الانقلاب من بدايتها، والمعلومات وصلت إليه من الاستخبارات الروسية والموساد الإسرائيلي، وأمريكا مهتمة جدا باستمرار أردوغان وحزبه في الحكم، لان مشروع تصدر الإخوان للمشهد السياسي العربي، والمعروف مجازا بـ "الربيع العربي" وهذه تسمية غربية بالمناسبة، جاء نتيجة لإعجاب إدارة أوباما نفسها بحكم الإسلام المعتدل على الطريقة التركية، وكان مؤملا بأن يحقق نجاحا مشابها في مصر وتونس وغيرها ولكنه لم يفعل، ولا يجب أن ننسى بأن أردوغان هو أول من دافع عن بشار الأسد عند اتهامه باغتيال شخصيات عامة في لبنان، و أن تركيا لا تشارك في الحرب ضد داعش في سوريا، وأنها لا تعتبر "جبهة النصرة" جماعة إرهابية.
ما أردت قوله أن محاولة الانقلاب مفهومة من جانب العسكر وأطياف المجتمع التركي على اختلافها، فمن أنقلب من الجيش يرى بأنه يفعل ذلك لحماية ركائز العلمانية، كما وضعها كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة وقائد نهضتها، وهذا رأيهم وليس رأيي، وبعض الشعب نزل إلى الشارع بصفته "كومبارس" يعمل لمصلحة حزب العدالة والتنمية، والبقية وهم الأغلبية نزلوا إلى الشارع لتجنب وقوع حرب أهلية غير مستبعدة، ولأن أحوالهم الاقتصادية جيدة ولا يرغبون في تغيرها، وحتى الأحزاب التركية المعارضة لأردوغان وحزبه رفضت الانقلاب مع أنها تنافسه على السلطة، لأن في الرفض محافظة على التجربة الديموقراطية الناجحة في تركيا، وأسلوب تداول السلطة فيها، والأهم أن فتح الله غولن، المتهم من أردوغان بأنه وراء الانقلاب، أدانه بشدة وقال بأن الطريق إلى كرسي الرئاسة لا يكون إلا عن طريق صناديق الاقتراع، وأن النسبة الأكبر من خصوم أردوغان ليسوا من "السلطة الموازية" أو " الدولة العميقة".
من يقرأ في تاريخ تركيا الحديثة سيقف على أمور كثيــــرة، من بينها، أن أردوغان قام بعملية تهميش كبيرة و مدروسة ضد الجيش التركي، وأبعده عن الحياة السياسية، وعزل وسجــــن معظم قادته المؤثرين، وأستعمـــــل الديموقراطية معهم كقميص عثمان، ويجوز أن محاولة الانقلاب أعطته فرصة مثالية لتصفية كامل خصومة في الجيش وفي غير الجيش، والدليل أن حملات الاعتقال طالت عشرات آلاف الأشخاص في مختلف مؤسسات الدولة، وقد نكون شهودا على إعدامات جماعية بعد فترة قصيرة، إذا كابر ولم يستجب لمطالبات المجتمع الدولي فيما يخص عدالة المحاكمات، ومدرسة تفكير حزب العدالة والتنمية بما فيها أردوغان، تأخذ بالإسلام البراغماتي لمواجهة علمانية الدولة، وفكر الإخوان المسلمين في الغالب الأعم يوظف هذه السياسة في تعاملاته بأنواعها، والمعني انه يعتمد الواقعية في إخضاع النص الديني وتكييفه بحسب الغرض السياسي المطلوب منه، ويمكن أن يحل حراما ويحرم حلالاً باستخدام ذات النص.
أردوغان ليس تركيا وتركيا ليست أردوغان، والرجل صاحب قامة سياسية عملاقة ومحل تقدير واحترام، ولكن لا يجب إن نرتفع بها إلى درجة الطهرانية والملائكية، ونضع صوره في كل منصة إعلامية بينما الأتراك أنفسهم يـرفعون علم بلادهــــــم، فهو في نهاية المطاف من جملة الناس ويخطئ كما يخطئون، فقد عزل رئيس وزراءه أحمد داود أوغلو عراب "سياسة التصفيــــر" من منصبهلأنه أحس بخطورة شعبية الثاني عليه، وأعـــلن قانون الطوارئ في تــــركيا لمدة ثلاثة أشهر، والقانون الأخير يجيز الاعتقال على الشبهة ويسمح بالمحاكمات والإعدامات الفورية، والأوطان لا تقبل الترحيل ولا يمكن استبدالها أو تقمص أوطان بديل عنها، ومن يحاول القيام بهذا التصرف سيقال له "اخرس" تماما كما فعل السياسي التركي مع شيخ الدين الخليجي.